الصفحة الرئيسية
>
شجرة التصنيفات
كتاب: تفسير الطبري المسمى بـ «جامع البيان في تأويل آي القرآن» ***
الْقَوْلُ فِي تَأْوِيلِ قَوْلِهِ تَعَالَى: {يُوصِيكُمُ اللَّهُ فِي أَوْلَادِكُمْ لِلذَّكَرِ مِثْلُ حَظِّ الْأُنْثَيَيْنِ}. قَالَ أَبُو جَعْفَرٍ: يَعْنِي جَلَّ ثَنَاؤُهُ بِقَوْلِهِ: “ يُوصِيكُمُ اللَّهُ “، يَعْهَدُ اللَّهُ إِلَيْكُمْ، “ فِي أَوْلَادِكُمْ لِلذَّكَرِ مِثْلُ حَظِّ الْأُنْثَيَيْنِ “، يَقُولُ: يَعْهَدُ إِلَيْكُمْ رَبُّكُمْ إِذَا مَاتَ الْمَيِّتُ مِنْكُمْ وَخَلَّفَ أَوْلَادًا ذُكُورًا وَإِنَاثًا، فَلِوَلَدِهِ الذُّكُورُ وَالْإِنَاثُ مِيرَاثُهُ أَجْمَعُ بَيْنَهُمْ، لِلذَّكَرِ مِنْهُمْ مِثْلُ حَظِّ الْأُنْثَيَيْنِ، إِذَا لَمْ يَكُنْ لَهُ وَارِثٌ غَيْرُهُمْ، سَوَاءٌ فِيهِ صِغَارُ وَلَدِهِ وَكِبَارُهُمْ وَإِنَاثُهُمْ، فِي أَنَّ جَمِيعَ ذَلِكَ بَيْنَهُمْ، لِلذَّكَرِ مِثْلُ حَظِّ الْأُنْثَيَيْنِ. وَرُفِعَ قَوْلُهُ: “ مِثْلُ “ بِالصِّفَةِ، وَهِيَ “ اللَّامُ “ الَّتِي فِي قَوْلِهِ: “ لِلذَّكَرِ “، وَلَمْ يُنْصَبْ بِقَوْلِهِ: “ يُوصِيكُمُ اللَّهُ “، لِأَنَّ “ الْوَصِيَّةَ “ فِي هَذَا الْمَوْضِعِ عَهْدٌ وَإِعْلَامٌ بِمَعْنَى الْقَوْلِ، وَ“ الْقَوْلُ “ لَا يَقَعُ عَلَى الْأَسْمَاءِ الْمُخْبَرِ عَنْهَا. فَكَأَنَّهُ قِيلَ: يَقُولُ اللَّهُ تَعَالَى ذِكْرُهُ لَكُمْ: فِي أَوْلَادِكُمْ لِلذَّكَرِ مِنْهُمْ مِثْلُ حَظِّ الْأُنْثَيَيْنِ. قَالَ أَبُو جَعْفَرٍ: وَقَدْ ذُكِرَ أَنَّ هَذِهِ الْآيَةَ نَـزَلَتْ عَلَى النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، تَبْيِينًا مِنَ اللَّهِ الْوَاجِبَ مِنَ الْحُكْمِ فِي مِيرَاثِ مَنْ مَاتَ وَخَلَّفَ وَرَثَةً، عَلَى مَا بَيَّنَ. لِأَنَّ أَهْلَ الْجَاهِلِيَّةِ كَانُوا لَا يَقْسِمُونَ مِنْ مِيرَاثِ الْمَيِّتِ لِأَحَدٍ مِنْ وَرَثَتِهِ بَعْدَهُ، مِمَّنْ كَانَ لَا يُلَاقِي الْعَدُوَّ وَلَا يُقَاتِلُ فِي الْحُرُوبِ مِنْ صِغَارِ وَلَدِهِ، وَلَا لِلنِّسَاءِ مِنْهُمْ. وَكَانُوا يَخُصُّونَ بِذَلِكَ الْمُقَاتِلَةَ دُونَ الذُّرِّيَّةِ. فَأَخْبَرَ اللَّهُ جَلَّ ثَنَاؤُهُ أَنَّ مَا خَلَّفَهُ الْمَيِّتُ بَيْنَ مَنْ سَمَّى وَفَرَضَ لَهُ مِيرَاثًا فِي هَذِهِ الْآيَةِ، وَفِي آخِرِ هَذِهِ السُّورَةِ، فَقَالَ فِي صِغَارِ وَلَدِ الْمَيِّتِ وَكِبَارِهِمْ وَإِنَاثِهِمْ: لَهُمْ مِيرَاثُ أَبِيهِمْ، إِذَا لَمْ يَكُنْ لَهُ وَارِثٌ غَيْرُهُمْ، لِلذَّكَرِ مِثْلُ حَظِّ الْأُنْثَيَيْنِ.
ذِكْرُ مَنْ قَالَ ذَلِكَ: حَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ الْحُسَيْنِ قَالَ: حَدَّثَنَا أَحْمَدُ بْنُ مُفَضَّلٍ قَالَ: حَدَّثَنَا أَسْبَاطٌ، عَنِ السُّدِّيِّ: “ يُوصِيكُمُ اللَّهُ فِي أَوْلَادِكُمْ لِلذَّكَرِ مِثْلُ حَظِّ الْأُنْثَيَيْنِ “، كَانَ أَهْلُ الْجَاهِلِيَّةِ لَا يُوَرِّثُونَ الْجَوَارِيَ وَلَا الصِّغَارَ مِنَ الْغِلْمَانِ، لَا يَرِثُ الرَّجُلَ مِنْ وَلَدِهِ إِلَّا مَنْ أَطَاقَ الْقِتَالَ، فَمَاتَ عَبْدُ الرَّحْمَنِ أَخُو حَسَّانَ الشَّاعِرِ، وَتَركَ امْرَأَةً يُقَالُ لَهَا أُمُّ كَجَّةَ، وَتَركَ خَمْسَ أَخَوَاتٍ، فَجَاءَتِ الْوَرَثَةُ يَأْخُذُونَ مَالَهُ، فَشَكَتْ أُمُّ كَجَّةَ ذَلِكَ إِلَى النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، فأَنْـزَلَ اللَّهُ تَبَارَكَ وَتَعَالَى هَذِهِ الْآيَةَ: “ فَإِنْ كُنَّ نِسَاءً فَوْقَ اثْنَتَيْنِ فَلَهُنَّ ثُلُثَا مَا تَرَكَ وَإِنْ كَانَتْ وَاحِدَةٌ فَلَهَا النِّصْفُ “ ثُمَّ قَالَ فِي أُمِّ كَجَّةَ: “ وَلَهُنَّ الرُّبُعُ مِمَّا تَرَكْتُمْ إِنْ لَمْ يَكُنْ لَكُمْ وَلَدٌ فَإِنْ كَانَ لَكُمْ وَلَدٌ فَلَهُنَّ الثُّمُنُ “. حَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ سَعْدٍ قَالَ، حَدَّثَنِي أَبِي قَالَ، حَدَّثَنِي عَمِّي قَالَ، حَدَّثَنِي أَبِي، عَنْ أَبِيهِ، عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ: “ يُوصِيكُمُ اللَّهُ فِي أَوْلَادِكُمْ لِلذَّكَرِ مِثْلُ حَظِّ الْأُنْثَيَيْنِ “، وَذَلِكَ أَنَّهُ لَمَّا نَـزَلَتِ الْفَرَائِضُ الَّتِي فَرَضَ اللَّهُ فِيهَا مَا فَرَضَ لِلْوَلَدِ الذَّكَرِ وَالْأُنْثَى وَالْأَبَوَيْنِ، كَرِهَهَا النَّاسُ أَوْ بَعْضُهُمْ، وَقَالُوا: “ تُعْطَى الْمَرْأَةُ الرُّبُعَ وَالثُّمُنَ وَتُعْطَى الِابْنَةُ النِّصْفَ، وَيُعْطَى الْغُلَامُ الصَّغِيرُ، وَلَيْسَ مِنْ هَؤُلَاءِ أَحَدٌ يُقَاتِلُ الْقَوْمَ وَلَا يَحُوزُ الْغَنِيمَةَ!! اسْكُتُوا عَنْ هَذَا الْحَدِيثِ لَعَلَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَنْسَاهُ، أَوْ نَقُولُ لَهُ فَيُغَيِّرُهُ “. فَقَالَ بَعْضُهُمْ: يَا رَسُولَ اللَّهِ، أَنُعْطِي الْجَارِيَةَ نِصْفَ مَا تَرَكَ أَبُوهَا، وَلَيْسَتْ تَرْكَبُ الْفَرَسَ وَلَا تُقَاتِلُ الْقَوْمَ، وَنُعْطِي الصَّبِيَّ الْمِيرَاثَ وَلَيْسَ يُغْنِي شَيْئًا؟ ! وَكَانُوا يَفْعَلُونَ ذَلِكَ فِي الْجَاهِلِيَّةِ، لَا يُعْطُونَ الْمِيرَاثَ إِلَّا مَنْ قَاتَلَ، يُعْطُونَهُ الْأَكْبَرَ فَالْأَكْبَرَ. وَقَالَ آخَرُونَ: بَلْ نَـزَلَ ذَلِكَ مِنْ أَجْلِ أَنَّ الْمَالَ كَانَ لِلْوَلَدِ قَبْلَ نـُزُولِهِ، وَلِلْوَالِدَيْنِ الْوَصِيَّةُ، فَنَسَخَ اللَّهُ تَبَارَكَ وَتَعَالَى ذَلِكَ بِهَذِهِ الْآيَةِ.
ذِكْرُ مَنْ قَالَ ذَلِكَ: حَدَّثَنِي مُحَمَّدُ بْنُ عَمْرٍو قَالَ: حَدَّثَنَا أَبُو عَاصِمٍ، عَنْ عِيسَى، عَنِ ابْنِ أَبِي نَجِيحٍ، عَنْ مُجَاهِدٍ أَوْ عَطَاءٍ، عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ فِي قَوْلِهِ: “ يُوصِيكُمْ اللَّهُ فِي أَوْلَادِكُمْ “ قَالَ، كَانَ الْمَالُ لِلْوَلَدِ، وَكَانَتِ الْوَصِيَّةُ لِلْوَالِدَيْنِ وَالْأَقْرَبِينَ، فَنَسَخَ اللَّهُ مِنْ ذَلِكَ مَا أَحَبَّ، فَجَعَلَ لِلذَّكَرِ مِثْلَ حَظِّ الْأُنْثَيَيْنِ، وَجَعَلَ لِلْأَبَوَيْنِ لِكُلِّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا السُّدُسَ مَعَ الْوَلَدِ، وَلِلزَّوْجِ الشَّطْرَ وَالرُّبُعَ، وَلِلزَّوْجَةِ الرُّبُعَ وَالثُّمُنَ. حَدَّثَنِي الْمُثَنَّى قَالَ: حَدَّثَنَا أَبُو حُذَيْفَةَ قَالَ: حَدَّثَنَا شِبْلٌ، عَنِ ابْنِ أَبِي نَجِيحٍ، عَنْ مُجَاهِدٍ: “ يُوصِيكُمُ اللَّهُ فِي أَوْلَادِكُمْ لِلذَّكَرِ مِثْلُ حَظِّ الْأُنْثَيَيْنِ “ قَالَ، كَانَ ابْنُ عَبَّاسٍ يَقُولُ: كَانَ الْمَالُ، وَكَانَتِ الْوَصِيَّةُ لِلْوَالِدَيْنِ وَالْأَقْرَبِينَ، فَنَسَخَ اللَّهُ تَبَارَكَ وَتَعَالَى مِنْ ذَلِكَ مَا أَحَبَّ، فَجَعَلَ لِلذَّكَرِ مِثْلَ حَظِّ الْأُنْثَيَيْنِ، ثُمَّ ذَكَرَ نَحْوَهُ. حَدَّثَنَا الْقَاسِمُ قَالَ: حَدَّثَنَا الْحُسَيْنُ قَالَ، حَدَّثَنِي حَجَّاجٌ، عَنِ ابْنِ جُرَيْجٍ، عَنْ مُجَاهِدٍ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ مِثْلَهُ. وَرُوِيَ عَنْ جَابِرِ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ مَا:- حَدَّثَنَا بِهِ مُحَمَّدُ بْنُ الْمُثَنَّى قَالَ: حَدَّثَنَا وَهْبُ بْنُ جَرِيرٍ قَالَ: حَدَّثَنَا شُعْبَةُ، عَنْ مُحَمَّدِ بْنِ الْمُنْكَدِرِ قَالَ، سَمِعْتُ جَابِرَ بْنَ عَبْدِ اللَّهِ قَالَ، دَخَلَ عَلَيَّ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَأَنَا مَرِيضٌ، فَتَوَضَّأَ وَنَضَحَ عَلَيَّ مِنْ وَضَوْئِهِ، فَأَفَقْتُ فَقُلْتُ: يَا رَسُولَ اللَّهِ، إِنَّمَا يَرِثُنِي كَلَالَةٌ، فَكَيْفَ بِالْمِيرَاثِ؟ فنَـزَلَتْ آيَةُ الْفَرَائِضِ. حَدَّثَنَا الْقَاسِمُ قَالَ: حَدَّثَنَا الْحُسَيْنُ قَالَ، حَدَّثَنِي حَجَّاجٌ، عَنِ ابْنِ جُرَيْجٍ قَالَ، حَدَّثَنِي مُحَمَّدُ بْنُ الْمُنْكَدِرِ، عَنْ جَابِرٍ قَالَ، عَادَنِي رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَأَبُو بَكْرٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ فِي بَنِي سَلِمَةَ يَمْشِيَانِ، فَوَجَدَانِي لَا أَعْقِلُ، فَدَعَا بِمَاءٍ فَتَوَضَّأَ ثُمَّ رَشَّ عَلَيَّ، فَأَفَقْتُ فَقُلْتُ: يَا رَسُولَ اللَّهِ، كَيْفَ أَصْنَعُ فِي مَالِي؟ فَنَزَلَتْ “ يُوصِيكُمُ اللَّهُ فِي أَوْلَادِكُمْ لِلذَّكَرِ مِثْلُ حَظِّ الْأُنْثَيَيْنِ “....
الْقَوْلُ فِي تَأْوِيلِ قَوْلِهِ تَعَالَى: {فَإِنْ كُنَّ نِسَاءً فَوْقَ اثْنَتَيْنِ فَلَهُنَّ ثُلُثَا مَا تَرَكَ}. قَالَ أَبُو جَعْفَرٍ: يَعْنِي بِقَوْلِهِ: “ فَإِنْ كُنَّ “، فَإِنْ كَانَ الْمَتْرُوكَاتُ “ نِسَاءً فَوْقَ اثْنَتَيْنِ “، وَيَعْنِي بِقَوْلِهِ: “ نِسَاءً “، بَنَاتَ الْمَيِّتِ، “ فَوْقَ اثْنَتَيْنِ “، يَقُولُ: أَكْثَرُ فِي الْعَدَدِ مِنَ اثْنَتَيْنِ “ فَلَهُنَّ ثُلُثَا مَا تَرَكَ “، يَقُولُ: فَلِبَنَاتِهِ الثُّلُثَانِ مِمَّا تَرَكَ بَعْدَهُ مِنْ مِيرَاثِهِ، دُونَ سَائِرِ وَرَثَتِهِ، إِذَا لَمْ يَكُنِ الْمَيِّتُ خَلَّفَ وَلَدًا ذَكَرًا مَعَهُنَّ. وَاخْتَلَفَ أَهْلُ الْعَرَبِيَّةِ فِي الْمَعْنَى بِقَوْلِهِ: “ فَإِنْ كُنَّ نِسَاءً “. فَقَالَ بَعْضُ نَحْوِيِّي الْبَصْرَةِ بِنَحْوِ الَّذِي قُلْنَا: فَإِنْ كَانَ الْمَتْرُوكَاتُ نِسَاءً وَهُوَ أَيْضًا قَوْلُ بَعْضِ نَحْوِيِّي الْكُوفَةِ. وَقَالَ آخَرُونَ مِنْهُمْ: بَلْ مَعْنَى ذَلِكَ، فَإِنْ كَانَ الْأَوْلَادُ نِسَاءً، وَقَالَ، إِنَّمَا ذَكَرَ اللَّهُ الْأَوْلَادَ فَقَالَ، “ يُوصِيكُمُ اللَّهُ فِي أَوْلَادِكُمْ “، ثُمَّ قَسَّمَ الْوَصِيَّةَ فَقَالَ، “ فَإِنْ كُنَّ نِسَاءً “، وَإِنْ كَانَ الْأَوْلَادُ [نِسَاءً، وَإِنْ كَانَ الْأَوْلَادُ وَاحِدَةً]، تَرْجَمَةً مِنْهُ بِذَلِكَ عَنِ “ الْأَوْلَادِ “. قَالَ أَبُو جَعْفَرٍ: وَالْقَوْلُ الْأَوَّلُ الَّذِي حَكَيْنَاهُ عَمَّنْ حَكَيْنَاهُ عَنْهُ مِنَ الْبَصْرِيِّينَ، أَوْلَى بِالصَّوَابِ فِي ذَلِكَ عِنْدِي. لِأَنَّ قَوْلَهُ: “ وَإِنْ كُنَّ “، لَوْ كَانَ مَعْنِيًّا بِهِ “ الْأَوْلَادُ “ لَقِيلَ: “ وَإِنْ كَانُوا “، لِأَنَّ “ الْأَوْلَادَ “ تَجْمَعُ الذُّكُورَ وَالْإِنَاثَ. وَإِذَا كَانَ كَذَلِكَ، فَإِنَّمَا يُقَالُ، “ كَانُوا “، لَا “ كُنَّ “.
الْقَوْلُ فِي تَأْوِيلِ قَوْلِهِ تَعَالَى: {وَإِنْ كَانَتْ وَاحِدَةً فَلَهَا النِّصْفُ وَلِأَبَوَيْهِ لِكُلِّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا السُّدُسُ مِمَّا تَرَكَ إِنْ كَانَ لَهُ وَلَدٌ}. قَالَ أَبُو جَعْفَرٍ: يَعْنِي بِقَوْلِهِ: “ وَإِنْ كَانَتْ “، [وَإِنْ كَانَتْ] الْمَتْرُوكَةُ ابْنَةً وَاحِدَةً “ فَلَهَا النِّصْفُ “، يَقُولُ: فَلِتِلْكَ الْوَاحِدَةِ نِصْفُ مَا تَرَكَ الْمَيِّتُ مِنْ مِيرَاثِهِ، إِذَا لَمْ يَكُنْ مَعَهَا غَيْرُهَا مِنْ وَلَدِ الْمَيِّتِ ذَكَرٌ وَلَا أُنْثَى. فَإِنْ قَالَ قَائِلٌ: فَهَذَا فَرْضُ الْوَاحِدَةِ مِنَ النِّسَاءِ وَمَا فَوْقَ الِاثْنَتَيْنِ، فِي الْمِيرَاثِ فَأَيْنَ فَرِيضَةُ الِاثْنَتَيْنِ؟ قِيلَ: فَرِيضَتُهُمْ بِالسُّنَّةِ الْمَنْقُولَةِ نَقْلَ الْوِرَاثَةِ الَّتِي لَا يَجُوزُ فِيهَا الشَّكُّ. وَأَمَّا قَوْلُهُ: “ وَلِأَبَوَيْهِ “، فَإِنَّهُ يَعْنِي: وَلِأَبَوَيِ الْمَيِّتِ “ لِكُلِّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا السُّدُسُ “، مِنْ تَرِكَتِهِ وَمَا خَلَّفَ مِنْ مَالِهِ، سَوَاءٌ فِيهِ الْوَالِدَةُ وَالْوَالِدُ، لَا يَزْدَادُ وَاحِدٌ مِنْهُمَا عَلَى السُّدُسِ “ إِنْ كَانَ لَهُ وَلَدٌ “، ذَكَرًا كَانَ الْوَلَدُ أَوْ أُنْثَى، وَاحِدًا كَانَ أَوْ جَمَاعَةً. فَإِنْ قَالَ قَائِلٌ: فَإِنْ كَانَ كَذَلِكَ التَّأْوِيلُ، فَقَدْ يَجِبُ أَنْ لَا يُزَادَ الْوَالِدُ مَعَ الِابْنَةِ الْوَاحِدَةِ عَلَى السُّدُسِ مِنْ مِيرَاثِهِ عَنْ وَلَدِهِ الْمَيِّتِ. وَذَلِكَ إِنْ قُلْتَهُ، قَوْلٌ خِلَافٌ لَمَا عَلَيْهِ الْأُمَّةُ مُجْمِعَةٌ، مِنْ تَصْيِيرِهِمْ بَاقِي تَرِكَةِ الْمَيِّتِ مَعَ الِابْنَةِ الْوَاحِدَةِ بَعْدَ أَخْذِهَا نَصِيبَهَا مِنْهَا لِوَالِدِهِ أَجْمَعَ! قِيلَ: لَيْسَ الْأَمْرُ فِي ذَلِكَ كَالَّذِي ظَنَنْتَ، وَإِنَّمَا لِكُلِّ وَاحِدٍ مِنْ أَبَوَيِ الْمَيِّتِ السُّدُسَ مِنْ تَرِكَتِهِ مَعَ وَلَدِهِ، ذَكَرًا كَانَ الْوَلَدُ أَوْ أُنْثَى، وَاحِدًا كَانَ أَوْ جَمَاعَةً، فَرِيضَةٌ مِنَ اللَّهِ لَهُ مُسَمَّاةٌ. فَإِمَّا زِيدَ عَلَى ذَلِكَ مِنْ بَقِيَّةِ النِّصْفِ مَعَ الِابْنَةِ الْوَاحِدَةِ إِذَا لَمْ يَكُنْ غَيْرُهُ وَغَيْرُ ابْنَةٍ لِلْمَيِّتِ وَاحِدَةٍ، فَإِنَّمَا زَيْدُهَا ثَانِيًا بِقُرْبِ عَصَبَةِ الْمَيِّتِ إِلَيْهِ، إِذْ كَانَ حُكْمُ كُلِّ مَا أَبْقَتْهُ سِهَامُ الْفَرَائِضِ، فَلِأُولِي عَصَبَةِ الْمَيِّتِ وَأَقْرَبِهِمْ إِلَيْهِ، بِحُكْمِ ذَلِكَ لَهَا عَلَى لِسَانِ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، وَكَانَ الْأَبُ أَقْرَبُ عَصَبَةِ ابْنِهِ وَأَوْلَاهَا بِهِ، إِذَا لَمْ يَكُنْ لِابْنِهِ الْمَيِّتِ ابْنٌ.
الْقَوْلُ فِي تَأْوِيلِ قَوْلِهِ تَعَالَى: {فَإِنْ لَمْ يَكُنْ لَهُ وَلَدٌ وَوَرِثَهُ أَبَوَاهُ فَلِأُمِّهِ الثُّلُثُ}. قَالَ أَبُو جَعْفَرٍ: يَعْنِي جَلَّ ثَنَاؤُهُ بِقَوْلِهِ: “ فَإِنْ لَمْ يَكُنْ لَهُ “، فَإِنْ لَمْ يَكُنْ لِلْمَيِّتِ “ وَلَدٌ “ ذَكَرٌ وَلَا أُنْثَى “ وَوَرِثَهُ أَبَوَاهُ “، دُونَ غَيْرِهِمَا مِنْ وَلَدٍ وَارِثٍ “ فَلِأُمِّهِ الثُّلُثُ “، يَقُولُ: فَلِأُمِّهِ مِنْ تَرِكَتِهِ وَمَا خَلَّفَ بَعْدَهُ، ثُلُثُ جَمِيعِ ذَلِكَ. فَإِنْ قَالَ قَائِلٌ: فَمَنِ الَّذِي لَهُ الثُّلُثَانِ الْآخَرَانِ. قِيلَ لَهُ الْأَبُ. فَإِنْ قَالَ، بِمَاذَا؟ قُلْتُ: بِأَنَّهُ أَقْرَبُ أَهْلِ الْمَيِّتِ إِلَيْهِ، وَلِذَلِكَ تَرَكَ ذِكْرَ تَسْمِيَةِ مَنْ لَهُ الثُّلُثَانِ الْبَاقِيَانِ، إِذْ كَانَ قَدْ بَيَّنَ عَلَى لِسَانِ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لِعِبَادِهِ أَنَّ كُلَّ مَيِّتٍ فَأَقْرَبُ عَصَبَتِهِ بِهِ أَوْلَى بِمِيرَاثِهِ، بَعْدَ إِعْطَاءِ ذَوِي السِّهَامِ الْمَفْرُوضَةِ سِهَامَهُمْ مِنْ مِيرَاثِهِ. وَهَذِهِ الْعِلَّةُ، هِيَ الْعِلَّةُ الَّتِي مِنْ أَجْلِهَا سُمِّيَ لِلْأُمِّ مَا سُمِّيَ لَهَا، إِذَا لَمْ يَكُنِ الْمَيِّتُ خلَّفَ وَارِثًا غَيْرَ أَبَوَيْهِ، لِأَنَّ الْأُمَّ لَيْسَتْ بِعَصَبَةٍ فِي حَالٍ لِلْمَيِّتِ. فَبَيَّنَ اللَّهُ جَلَّ ثَنَاؤُهُ لِعِبَادِهِ مَا فَرَضَ لَهَا مِنْ مِيرَاثِ وَلَدِهَا الْمَيِّتِ، وَتَرَكَ ذِكْرَ مَنْ لَهُ الثُّلُثَانِ الْبَاقِيَانِ مِنْهُ مَعَهُ، إِذْ كَانَ قَدْ عَرَّفَهُمْ فِي جُمْلَةِ بَيَانِهِ لَهُمْ مَنْ لَهُ بَقَايَا تَرِكَةِ الْأَمْوَالِ بَعْدَ أَخْذِ أَهْلِ السِّهَامِ سِهَامَهُمْ وَفَرَائِضَهُمْ، وَكَانَ بَيَانُهُ ذَلِكَ، مُغْنِيًا لَهُمْ عَلَى تَكْرِيرِ حُكْمِهِ مَعَ كُلِّ مَنْ قَسَمَ لَهُ حَقًّا مِنْ مِيرَاثِ مَيِّتٍ، وَسُمِّيَ لَهُ مِنْهُ سَهْمًا.
الْقَوْلُ فِي تَأْوِيلِ قَوْلِهِ تَعَالَى: {فَإِنْ كَانَ لَهُ إِخْوَةٌ فَلِأُمِّهِ السُّدُسُ}. قَالَ أَبُو جَعْفَرٍ: إِنْ قَالَ قَائِلٌ: وَمَا الْمَعْنَى الَّذِي مِنْ أَجْلِهِ ذَكَرَ حُكْمَ الْأَبَوَيْنِ مَعَ الْإِخْوَةِ، وَتَرَكَ ذِكْرَ حُكْمِهِمَا مَعَ الْأَخِ الْوَاحِدِ؟ قُلْتُ: اخْتِلَافُ حُكْمِهِمَا مَعَ الْإِخْوَةِ الْجَمَاعَةِ وَالْأَخِ الْوَاحِدِ، فَكَانَ فِي إِبَانَةِ اللَّهِ جَلَّ ثَنَاؤُهُ لِعِبَادِهِ حُكْمَهُمَا فِيمَا يَرِثَانِ مِنْ وَلَدِهِمَا الْمَيِّتِ مَعَ إِخْوَتِهِ، غِنًى وَكِفَايَةً عَنْ أَنَّ حُكْمَهُمَا فِيمَا وَرِثَا مِنْهُ غَيْرُ مُتَغَيِّرٍ عَمَّا كَانَ لَهُمَا، وَلَا أَخَ لِلْمَيِّتِ وَلَا وَارِثَ غَيْرُهُمَا. إِذْ كَانَ مَعْلُومًا عِنْدَهُمْ أَنَّ كُلَّ مُسْتَحَقٍّ حَقًّا بِقَضَاءِ اللَّهِ ذَلِكَ لَهُ، لَا يَنْتَقِلُ حَقُّهُ الَّذِي قَضَى بِهِ لَهُ رَبُّهُ جَلَّ ثَنَاؤُهُ عَمَّا قَضَى بِهِ لَهُ إِلَى غَيْرِهِ، إِلَّا بِنَقْلِ اللَّهِ ذَلِكَ عَنْهُ إِلَى مَنْ نَقَلَهُ إِلَيْهِ مِنْ خَلْقِهِ. فَكَانَ فِي فَرْضِهِ تَعَالَى ذِكْرُهُ لِلْأُمِّ مَا فَرَضَ، إِذَا لَمْ يَكُنْ لِوَلَدِهَا الْمَيِّتِ وَارِثٌ غَيْرُهَا وَغَيْرُ وَالِدِهِ، وَلَا أَخٌ الدَّلَالَةَ الْوَاضِحَةَ لِلْخَلْقِ أَنَّ ذَلِكَ الْمَفْرُوضَ- وَهُوَ ثُلُثُ مَالِ وَلَدِهَا الْمَيِّتِ- حَقٌّ لَهَا وَاجِبٌ، حَتَّى يُغَيِّرَ ذَلِكَ الْفَرْضَ مَنْ فَرَضَ لَهَا. فَلَمَّا غَيَّرَ تَعَالَى ذِكْرُهُ مَا فَرَضَ لَهَا مِنْ ذَلِكَ مَعَ الْإِخْوَةِ الْجَمَاعَةِ، وَتَرَكَ تَغْيِيرَهُ مَعَ الْأَخِ الْوَاحِدِ، عُلِمَ بِذَلِكَ أَنَّ فَرْضَهَا غَيْرُ مُتَغَيِّرٍ عَمَّا فُرِضَ لَهَا إِلَّا فِي الْحَالِ الَّتِي غَيَّرَهُ فِيهَا مَنْ لَزِمَ الْعِبَادَ طَاعَتُهُ، دُونَ غَيْرِهَا مِنَ الْأَحْوَالِ. ثُمَّ اخْتَلَفَ أَهْلُ التَّأْوِيلِ فِي عَدَدِ الْإِخْوَةِ الَّذِينَ عَنَاهُمُ اللَّهُ تَعَالَى ذِكْرُهُ بِقَوْلِهِ: “ فَإِنْ كَانَ لَهُ إِخْوَةٌ “. فَقَالَ جَمَاعَةُ أَصْحَابِ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَالتَّابِعَيْنِ لَهُمْ بِإِحْسَانٍ، وَمَنْ بَعْدَهُمْ مِنْ عُلَمَاءِ أَهْلِ الْإِسْلَامِ فِي كُلِّ زَمَانٍ: عَنَى اللَّهُ جَلَّ ثَنَاؤُهُ بِقَوْلِهِ: “ فَإِنْ كَانَ لَهُ إِخْوَةٌ فَلِأُمِّهِ السُّدُسُ “ اثْنَيْنِ كَانَ الْإِخْوَةُ أَوْ أَكْثَرَ مِنْهُمَا، أُنْثَيَيْنِ كَانَتَا أَوْ كُنَّ إِنَاثًا، أَوْ ذَكَرَيْنِ كَانَا أَوْ كَانُوا ذُكُورًا، أَوْ كَانَ أَحَدُهُمَا ذَكَرًا وَالْآخَرُ أُنْثَى. وَاعْتَلَّ كَثِيرٌ مِمَّنْ قَالَ ذَلِكَ، بِأَنَّ ذَلِكَ قَالَتْهُ الْأُمَّةُ عَنْ بَيَانِ اللَّهِ جَلَّ ثَنَاؤُهُ عَلَى لِسَانِ رَسُولِهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، فَنَقَلَتْهُ أَمَةُ نَبِيِهِ نَقْلًا مُسْتَفِيضًا قَطَعَ الْعُذْرَ مَجِيئُهُ، وَدَفَعَ الشَّكَّ فِيهِ عَنْ قُلُوبِ الْخَلْقِ وُرُودُهُ. وَرُوِيَ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا أَنَّهُ كَانَ يَقُولُ: بَلْ عَنَى اللَّهُ جَلَّ ثَنَاؤُهُ بِقَوْلِهِ: “ فَإِنْ كَانَ لَهُ إِخْوَةٌ “، جَمَاعَةً أَقَلُهَا ثَلَاثَةٌ. وَكَانَ يُنْكِرُ أَنْ يَكُونَ اللَّهُ جَلَّ ثَنَاؤُهُ حَجَبَ الْأُمَّ عَنْ ثُلُثِهَا مَعَ الْأَبِ بِأَقَلِّ مِنْ ثَلَاثَةِ إِخْوَةٍ. فَكَانَ يَقُولُ فِي أَبَوَيْنِ وَأَخَوَيْنِ: لِلْأُمِّ الثُّلُثُ، وَمَا بَقِيَ فَلِلْأَبِ، كَمَا قَالَ أَهْلُ الْعِلْمِ فِي أَبَوَيْنِ وَأَخٍ وَاحِدٍ. ذِكْرُ الرِّوَايَةِ عَنْهُ بِذَلِكَ: حَدَّثَنِي مُحَمَّدُ بْنُ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عَبْدِ الْحَكَمِ قَالَ: حَدَّثَنَا ابْنُ أَبِي فَدِيكٍ قَالَ، حَدَّثَنِي ابْنُ أَبِي ذِئْبٍ، عَنْ شُعْبَةَ مَوْلَى ابْنِ عَبَّاسٍ، عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ: أَنَّهُ دَخَلَ عَلَى عُثْمَانَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ فَقَالَ، لِمَ صَارَ الْأَخَوَانِ يَرُدَّانِ الْأُمَّ إِلَى السُّدُسِ، وَإِنَّمَا قَالَ اللَّهُ: “ فَإِنْ كَانَ لَهُ إِخْوَةٌ “، وَالْأَخَوَانِ فِي لِسَانِ قَوْمِكَ وَكَلَامِ قَوْمِكَ لَيْسَا بِإِخْوَةٍ؟ فَقَالَ عُثْمَانُ رَحِمَهُ اللَّهُ هَلْ أَسْتَطِيعُ نَقْضَ أَمَرٍ كَانَ قَبْلِي، وَتَوَارَثَهُ النَّاسُ وَمَضَى فِي الْأَمْصَارِ؟ قَالَ أَبُو جَعْفَرٍ: وَالصَّوَابُ مِنَ الْقَوْلِ فِي ذَلِكَ عِنْدِي، أَنَّ الْمَعْنِيَّ بِقَوْلِهِ: “ فَإِنْ كَانَ لَهُ إِخْوَةٌ “، اثْنَانِ مِنْ إِخْوَةِ الْمَيِّتِ فَصَاعِدًا، عَلَى مَا قَالَهُ أَصْحَابُ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، دُونَ مَا قَالَهُ ابْنُ عَبَّاسٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا، لِنَقْلِ الْأُمَّةِ وِرَاثَةً صِحَّةَ مَا قَالُوهُ مِنْ ذَلِكَ عَنِ الْحُجَّةِ، وَإِنْكَارِهِمْ مَا قَالَهُ ابْنُ عَبَّاسٍ فِي ذَلِكَ. فَإِنْ قَالَ قَائِلٌ: وَكَيْفَ قِيلَ فِي الْأَخَوَيْنِ “ إِخْوَةٌ “، وَقَدْ عَلِمْتَ أَنَّ لِـ “ الْأَخَوَيْنِ “ فِي مَنْطِقِ الْعَرَبِ مِثَالًا لَا يُشْبِهُ مِثَالَ “ الْإِخْوَةِ “، فِي مَنْطِقِهَا؟ قِيلَ: إِنَّ ذَلِكَ وَإِنْ كَانَ كَذَلِكَ، فَإِنَّ مِنْ شَأْنِهَا التَّأْلِيفَ بَيْنَ الْكَلَامَيْنِ يَتَقَارَبُ مَعْنَيَاهُمَا، وَإِنِ اخْتَلَفَا فِي بَعْضِ وُجُوهِهِمَا. فَلَمَّا كَانَ ذَلِكَ كَذَلِكَ، وَكَانَ مُسْتَفِيضًا فِي مَنْطِقِهَا مُنْتَشِرًا مُسْتَعْمَلًا فِي كَلَامِهَا: “ ضَرَبْتُ مِنْ عَبْدِ اللَّهِ وَعَمْرٍو رُءُوسَهُمَا، وَأَوْجَعْتُ مِنْهُمَا ظُهُورَهَمَا “، وَكَانَ ذَلِكَ أَشَدَّ اسْتِفَاضَةً فِي مَنْطِقِهَا مِنْ أَنْ يُقَالَ، “ أَوْجَعْتُ مِنْهُمَا ظَهْرَيْهِمَا “، وَإِنْ كَانَ مَقُولًا “ أَوْجَعْتُ ظَهْرَيْهِمَا “، كَمَا قَالَ الْفَرَزْدَقُ: بِمَـا فِـي فُؤَادَيْنَـا مِنَ الشَّوْقِ وَالْهَوَى فَيَـبْرَأُ مُنْهَـاضُ الْفُـؤَادِ الْمُشَـعَّفِ غَيْرَ أَنَّ ذَلِكَ وَإِنْ كَانَ مَقُولًا فَأَفْصَحُ مِنْهُ: “ بِمَا فِي أَفْئِدَتِنَا “، كَمَا قَالَ جَلَّ ثَنَاؤُهُ: (إِنْ تَتُوبَا إِلَى اللَّهِ فَقَدْ صَغَتْ قُلُوبُكُمَا) [سُورَةُ التَّحْرِيمِ: 4]. فِلْمًا كَانَ مَا وَصَفْتُ مِنْ إِخْرَاجِ كُلِّ مَا كَانَ فِي الْإِنْسَانِ وَاحِدًا إِذَا ضُمَّ إِلَى الْوَاحِدِ مِنْهُ آخَرُ مِنْ إِنْسَانٍ آخَرَ فَصَارَا اثْنَيْنِ مِنَ اثْنَيْنِ، بِلَفْظِ الْجَمِيعِ، أَفْصَحَ فِي مَنْطِقِهَا وَأَشْهُرَ فِي كَلَامِهَا وَكَانَ “ الْأَخَوَانِ “ شَخْصَيْنِ كُلُّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا غَيْرُ صَاحِبِهِ، مِنْ نَفَسَيْنِ مُخْتَلِفَيْنِ، أَشْبَهَ مَعْنَيَاهُمَا مَعْنَى مَا كَانَ فِي الْإِنْسَانِ مِنْ أَعْضَائِهِ وَاحِدًا لَا ثَانِيَ لَهُ، فَأُخْرِجَ اثْنَاهُمُا بِلَفْظِ اثْنَى الْعُضْوَيْنِ اللَّذَيْنِ وَصَفْتُ، فَقِيلَ “ إِخْوَةٌ “ فِي مَعْنَى “ الْأَخَوَيْنِ “، كَمَا قِيلَ “ ظُهُورٌ “ فِي مَعْنَى “ الظَّهْرَيْنِ “، وَ“ أَفْوَاهٌ “ فِي مَعْنَى “ فَمَوَيْنِ “، وَ“ قُلُوبٌ “ فِي مَعْنَى “ قَلْبَيْنِ “. وَقَدْ قَالَ بَعْضُ النَّحْوِيِّينَ: إِنَّمَا قِيلَ “ إِخْوَةٌ “، لِأَنَّ أَقَلَّ الْجُمَعِ اثْنَانِ. وَذَلِكَ أَنَّ ذَلِكَ ضَمَّ شَيْءٌ إِلَى شَيْءٍ صَارَا جَمِيعًا بَعْدَ أَنْ كَانَا فَرْدَيْنِ، فَجُمِعَا لِيُعْلَمَ أَنَّ الِاثْنَيْنِ جَمْعٌ. قَالَ أَبُو جَعْفَرٍ: وَهَذَا وَإِنْ كَانَ كَذَلِكَ فِي الْمَعْنَى، فَلَيْسَ بِعِلَّةٍ تُنْبِئُ عَنْ جَوَازِ إِخْرَاجِ مَا قَدْ جَرَى الْكَلَامُ مُسْتَعْمَلًا مُسْتَفِيضًا عَلَى أَلْسُنِ الْعَرَبِ لِاثْنَيْهِ بِمِثَالٍ وَصُورَةٍ غَيْرَ مِثَالِ ثَلَاثَةٍ فَصَاعِدًا مِنْهُ وَصُورَتُهَا. لِأَنَّ مَنْ قَالَ، “ أَخَوَاكَ قَامَا “، فَلَا شَكَّ أَنَّهُ قَدْ عَلِمَ أَنَّ كُلَّ وَاحِدٍ مِنَ “ الْأَخَوَيْنِ “ فَرْدٌ ضُمَّ أَحَدُهُمَا إِلَى الْآخَرِ فَصَارَا جَمِيعًا بَعْدَ أَنْ كَانَا شَتَّى. غَيْرَ أَنَّ الْأَمْرَ وَإِنْ كَانَ كَذَلِكَ، فَلَا تَسْتَجِيزُ الْعَرَبُ فِي كَلَامِهَا أَنْ يُقَالَ، “ أَخَوَاكَ قَامُوا “، فَيَخْرُجُ قَوْلُهُمْ “ قَامُوا “، وَهُوَ لَفْظٌ لِلْخَبَرِ عَنِ الْجَمِيعِ، خَبَرًا عَنِ “ الْأَخَوَيْنِ “ وَهُمَا بِلَفْظِ الِاثْنَيْنِ. لِأَنَّ كُلَّ مَا جَرَى بِهِ الْكَلَامُ عَلَى أَلْسِنَتِهِمْ مَعْرُوفًا عِنْدَهُمْ بِمِثَالٍ وَصُورَةٍ، إِذَا غَيَّرَ مُغَيِّرٌ عَمَّا قَدْ عَرَفُوهُ فِيهِمْ، نَكِرُوهُ. فَكَذَلِكَ “ الْأَخَوَانِ “ وَإِنْ كَانَ مَجْمُوعَيْنِ ضُمَّ أَحَدُهُمَا إِلَى صَاحِبِهِ، فَلَهُمَا مِثَالٌ فِي الْمَنْطِقِ وَصُورَةٌ، غَيْرُ مِثَالِ الثَّلَاثَةِ مِنْهُمْ فَصَاعِدًا وَصُورَتِهِمْ. فَغَيْرُ جَائِزٍ أَنْ يُغَيَّرَ أَحَدُهُمَا إِلَى الْآخَرِ إِلَّا بِمَعْنًى مَفْهُومٍ. وَإِذَا كَانَ ذَلِكَ كَذَلِكَ، فَلَا قَوْلَ أَوْلَى بِالصِّحَّةِ مِمَّا قُلْنَا قَبْلُ. قَالَ أَبُو جَعْفَرٍ: فَإِنْ قَالَ قَائِلٌ: وَلِمَ نُقِصَتِ الْأُمُّ عَنْ ثُلُثِهَا بِمَصِيرِ إِخْوَةِ الْمَيِّتِ مَعَهَا اثْنَيْنِ فَصَاعِدًا؟ قِيلَ: اخْتَلَفَتِ الْعُلَمَاءُ فِي ذَلِكَ. فَقَالَ بَعْضُهُمْ: نُقِصَتِ الْأُمُّ عَنْ ذَلِكَ دُونَ الْأَبِ، لِأَنَّ عَلَى الْأَبِ مُؤَنَهُمْ دُونَ أُمِّهِمْ.
ذِكْرُ مَنْ قَالَ ذَلِكَ: حَدَّثَنَا بِشْرُ بْنُ مُعَاذٍ قَالَ: حَدَّثَنَا يَزِيدُ بْنُ زُرَيْعٍ قَالَ: حَدَّثَنَا سَعِيدٌ، عَنْ قَتَادَةَ قَوْلُهُ: “ فَإِنْ لَمْ يَكُنْ لَهُ وَلَدٌ وَوَرِثَهُ أَبَوَاهُ فَلِأُمِّهِ الثُّلُثُ فَإِنْ كَانَ لَهُ إِخْوَةٌ فَلِأُمِّهِ السُّدُسُ “، أَضَرُّوا بِالْأُمِّ وَلَا يَرِثُونَ، وَلَا يَحْجُبُهَا الْأَخُ الْوَاحِدُ مِنَ الثُّلُثِ، وَيَحْجُبُهَا مَا فَوْقَ ذَلِكَ. وَكَانَ أَهْلُ الْعِلْمِ يَرَوْنَ أَنَّهُمْ إِنَّمَا حَجَبُوا أُمَّهُمْ مِنْ الثُّلُثِ لِأَنَّ أَبَاهُمْ يَلِي نِكَاحَهُمْ وَالنَّفَقَةَ عَلَيْهِمْ دُونَ أُمِّهِمْ. وَقَالَ آخَرُونَ: بَلْ نُقِصَتِ الْأُمُّ السُّدُسَ، وَقُصِرَ بِهَا عَلَى سُدُسٍ وَاحِدٍ، مَعُونَةً لِإِخْوَةِ الْمَيِّتِ بِالسُّدُسِ الَّذِي حَجَبُوا أُمَّهُمْ عَنْهُ.
ذِكْرُ مَنْ قَالَ ذَلِكَ: حَدَّثَنَا الْحَسَنُ بْنُ يَحْيَى قَالَ، أَخْبَرَنَا عَبْدُ الرَّزَّاقِ قَالَ، أَخْبَرَنَا مَعْمَرٌ، عَنِ ابْنِ طَاوُسٍ، عَنْ أَبِيهِ، عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ قَالَ، السُّدُسُ الَّذِي حَجَبَتْهُ الْإِخْوَةُ الْأُمَّ لَهُمْ، إِنَّمَا حَجَبُوا أُمَّهُمْ عَنْهُ لِيَكُونَ لَهُمْ دُونَ أُمِّهِمْ. وَقَدْ رُوِيَ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ خِلَافُ هَذَا الْقَوْلِ، وَذَلِكَ مَا:- حَدَّثَنِي يُونُسُ قَالَ، أَخْبَرَنَا ابْنُ عُيَيْنَةَ، عَنْ عَمْرِو بْنِ دِينَارٍ، عَنِ الْحَسَنِ بْنِ مُحَمَّدٍ، عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ قَالَ، الْكَلَالَةُ مَنْ لَا وَلَدَ لَهُ وَلَا وَالِدٍ. قَالَ أَبُو جَعْفَرٍ، وَأَوْلَى ذَلِكَ بِالصَّوَابِ أَنْ يُقَالَ فِي ذَلِكَ: إِنَّ اللَّهَ تَعَالَى ذِكْرُهُ فَرَضَ لِلْأُمِّ مَعَ الْإِخْوَةِ السُّدُسَ، لِمَا هُوَ أَعْلَمُ بِهِ مِنْ مَصْلَحَةِ خَلْقِهِ وَقَدْ يَجُوزُ أَنْ يَكُونَ ذَلِكَ كَانَ لِمَا أُلْزِمَ الْآبَاءُ لِأَوْلَادِهِمْ وَقَدْ يَجُوزُ أَنْ يَكُونَ ذَلِكَ لِغَيْرِ ذَلِكَ. وَلَيْسَ ذَلِكَ مِمَّا كُلِّفْنَا عِلْمَهُ، وَإِنَّمَا أُمِرْنَا بِالْعَمَلِ بِمَا عَلِمْنَا. وَأَمَّا الَّذِي رُوِيَ عَنْ طَاوُسٍ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ، فَقَوْلٌ لِمَا عَلَيْهِ الْأُمَّةُ مُخَالِفٌ. وَذَلِكَ أَنَّهُ لَا خِلَافَ بَيْنَ الْجَمِيعِ: أَنَّ لَا مِيرَاثَ لِأَخِي مَيِّتٍ مَعَ وَالِدِهِ. فَكَفَى إِجْمَاعُهُمْ عَلَى خِلَافِهِ شَاهِدًا عَلَى فَسَادِهِ.
الْقَوْلُ فِي تَأْوِيلِ قَوْلِهِ تَعَالَى: {مِنْ بَعْدِ وَصِيَّةٍ يُوصِي بِهَا أَوْ دَيْنٍ}. قَالَ أَبُو جَعْفَرٍ: يَعْنِي جَلَّ ثَنَاؤُهُ بِقَوْلِهِ: “ مِنْ بَعْدِ وَصِيَّةٍ يُوصِي بِهَا أَوْ دَيْنٍ “، أَنَّ الَّذِي قَسَمَ اللَّهُ تَبَارَكَ وَتَعَالَى لِوَلَدِ الْمَيِّتِ الذُّكُورِ مِنْهُمْ وَالْإِنَاثِ وَلِأَبَوَيْهِ مِنْ تَرِكَتِهِ مِنْ بَعْدِ وَفَاتِهِ، إِنَّمَا يَقْسِمُهُ لَهُمْ عَلَى مَا قَسَمَهُ لَهُمْ فِي هَذِهِ الْآيَةِ مِنْ بَعْدِ قَضَاءِ دَيْنِ الْمَيِّتِ الَّذِي مَاتَ وَهُوَ عَلَيْهِ مِنْ تَرِكَتِهِ، وَمِنْ بَعْدِ تَنْفِيذِ وَصِيَّتِهِ فِي بَابِهَا بَعْدَ قَضَاءِ دَيْنِهِ كُلِّهِ. فَلَمْ يَجْعَلْ تَعَالَى ذِكْرُهُ لِأَحَدٍ مِنْ وَرَثَةِ الْمَيِّتِ، وَلَا لِأَحَدٍ مِمَّنْ أَوْصَى لَهُ بِشَيْءٍ، إِلَّا مِنْ بَعْدِ قَضَاءِ دَيْنِهِ مِنْ جَمِيعِ تَرِكَتِهِ، وَإِنْ أَحَاطَ بِجَمِيعِ ذَلِكَ. ثُمَّ جَعَلَ أَهْلَ الْوَصَايَا بَعْدَ قَضَاءِ دَيْنِهِ شُرَكَاءَ وَرَثَتِهِ فِيمَا بَقِيَ لِمَا أَوْصَى لَهُمْ بِهِ، مَا لَمْ يُجَاوِزْ ذَلِكَ ثُلُثَهُ. فَإِنْ جَاوَزَ ذَلِكَ ثُلُثَهُ، جَعَلَ الْخِيَارَ فِي إِجَازَةِ مَا زَادَ عَلَى الثُّلُثِ مِنْ ذَلِكَ أَوْ رَدِّهِ إِلَى وَرَثَتِهِ: إِنْ أَحَبُّوا أَجَازُوا الزِّيَادَةَ عَلَى ثُلُثِ ذَلِكَ، وَإِنْ شَاءُوا رَدُّوهُ. فَأَمَّا مَا كَانَ مِنْ ذَلِكَ إِلَى الثُّلُثِ، فَهُوَ مَاضٍ عَلَيْهِمْ. وَعَلَى كُلِّ مَا قُلْنَا مِنْ ذَلِكَ، الْأُمَّةُ مُجْمِعَةٌ. وَقَدْ رُوِيَ عَنْ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بِذَلِكَ خَبَرٌ، وَهُوَ مَا:- حَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ بَشَّارٍ قَالَ: حَدَّثَنَا يَزِيدُ بْنُ هَارُونَ قَالَ، أَخْبَرَنَا سُفْيَانُ، عَنْ أَبِي إِسْحَاقَ، عَنِ الْحَارِثِ الْأَعْوَرِ، عَنْ عَلِيٍّ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ قَالَ، إِنَّكُمْ تَقْرَءُونَ هَذِهِ الْآيَةَ: “ مِنْ بَعْدِ وَصِيَّةٍ يُوصِي بِهَا أَوْ دَيْنٍ “، وَإِنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَضَى بِالدَّيْنِ قَبْلَ الْوَصِيَّةِ. حَدَّثَنَا ابْنُ بَشَّارٍ قَالَ: حَدَّثَنَا يَزِيدُ بْنُ هَارُونَ قَالَ: حَدَّثَنَا زَكَرِيَّا بْنُ أَبِي زَائِدَةَ، عَنْ أَبِي إِسْحَاقَ، عَنِ الْحَارِثِ، عَنْ عَلِيٍّ رِضْوَانُ اللَّهِ عَلَيْهِ، عَنِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بِمِثْلِهِ. حَدَّثَنَا أَبُو السَّائِبِ قَالَ: حَدَّثَنَا حَفْصُ بْنُ غِيَاثٍ قَالَ: حَدَّثَنَا أَشْعَثُ، عَنْ أَبِي إِسْحَاقَ، عَنِ الْحَارِثِ، عَنْ عَلِيٍّ، عَنْ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مِثْلَهُ. حَدَّثَنَا ابْنُ حُمَيْدٍ قَالَ: حَدَّثَنَا هَارُونُ بْنُ الْمُغِيرَةِ، عَنِ ابْنِ مُجَاهِدٍ، عَنْ أَبِيهِ: “ مِنْ بَعْدِ وَصِيَّةٍ يُوصِي بِهَا أَوْ دَيْنٍ “ قَالَ، يَبْدَأُ بِالدَّيْنِ قَبْلَ الْوَصِيَّةِ. قَالَ أَبُو جَعْفَرٍ: وَاخْتَلَفَتِ الْقَرَأَةُ فِي قِرَاءَةِ ذَلِكَ. فَقَرَأَتْهُ عَامَّةُ قَرَأَةِ أَهْلِ الْمَدِينَةِ وَالْعِرَاقِ: (يُوصِي بِهَا أَوْ دَيْنٍ). وَقَرَأَهُ بَعْضُ أَهْلِ مَكَّةَ وَالشَّأْمِ وَالْكُوفَةِ، (يُوصَى بِهَا)، عَلَى مَعْنَى مَا لَمْ يُسَمَّ فَاعِلُهُ. قَالَ أَبُو جَعْفَرٍ: وَأَوْلَى الْقِرَاءَتَيْنِ بِالصَّوَابِ قِرَاءَةُ مَنْ قَرَأَ ذَلِكَ: (مِنْ بَعْدِ وَصِيَّةٍ يُوصِي بِهَا أَوْ دَيْنٍ) عَلَى مَذْهَبِ مَا قَدْ سُمِّيَ فَاعِلُهُ، لِأَنَّ الْآيَةَ كُلَّهَا خَبَرٌ عَمَّنْ قَدْ سُمِّيَ فَاعِلُهُ. أَلَّا تَرَى أَنَّهُ يَقُولُ: “ وَلِأَبَوَيْهِ لِكُلِّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا السُّدُسُ مِمَّا تَرَكَ إِنْ كَانَ لَهُ وَلَدٌ “؟ فَكَذَلِكَ الَّذِي هُوَ أَوْلَى بِقَوْلِهِ: “ يُوصِي بِهَا أَوْ دَيْنٍ “، أَنْ يَكُونَ خَبَرًا عَمَّنْ قَدْ سُمِّيَ فَاعِلُهُ، لِأَنَّ تَأْوِيلَ الْكَلَامِ: وَلِأَبَوَيْهِ لِكُلِّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا السُّدُسُ مِمَّا تَرَكَ إِنْ كَانَ لَهُ وَلَدٌ مِنْ بَعْدِ وَصِيَّةٍ يُوصِي بِهَا أَوْ دَيْنٍ يُقْضَى عَنْهُ.
الْقَوْلُ فِي تَأْوِيلِ قَوْلِهِ تَعَالَى: {آبَاؤُكُمْ وَأَبْنَاؤُكُمْ لَا تَدْرُونَ أَيُّهُمْ أَقْرَبُ لَكُمْ نَفْعًا}. قَالَ أَبُو جَعْفَرٍ: يَعْنِي جَلَّ ثَنَاؤُهُ بِقَوْلِهِ: “ آبَاؤُكُمْ وَأَبْنَاؤُكُمْ “، هَؤُلَاءِ الَّذِينَ أَوْصَاكُمُ اللَّهُ بِهِ فِيهِمْ- مِنْ قِسْمَةِ مِيرَاثِ مَيِّتِكُمْ فِيهِمْ عَلَى مَا سُمِّيَ لَكُمْ وَبَيَّنَهُ فِي هَذِهِ الْآيَةِ- آبَاؤُكُمْ وَأَبْنَاؤُكُمْ “ لَا تَدْرُونَ أَيُّهُمْ أَقْرَبُ لَكُمْ نَفْعًا “، يَقُولُ: أَعْطُوهُمْ حُقُوقَهُمْ مِنْ مِيرَاثِ مَيِّتِهِمُ الَّذِي أَوْصَيْتُكُمْ أَنْ تَعْطُوَهُمُوهَا، فَإِنَّكُمْ لَا تَعْلَمُونَ أَيُّهُمْ أَدْنَى وَأَشَدُ نَفْعًا لَكُمْ فِي عَاجِلِ دُنْيَاكُمْ وَآجِلِ أُخْرَاكُمْ. وَاخْتَلَفَ أَهْلُ التَّأْوِيلِ فِي تَأْوِيلِ قَوْلِهِ: “ لَا تَدْرُونَ أَيُّهُمْ أَقْرَبُ لَكُمْ نَفْعًا “. فَقَالَ بَعْضُهُمْ: يَعْنِي بِذَلِكَ أَيُّهُمْ أَقْرَبُ لَكُمْ نَفْعًا فِي الْآخِرَةِ.
ذِكْرُ مَنْ قَالَ ذَلِكَ: حَدَّثَنِي الْمُثَنَّى قَالَ: حَدَّثَنَا عَبْدُ اللَّهِ بْنُ صَالِحٍ قَالَ، حَدَّثَنِي مُعَاوِيَةُ بْنُ صَالِحٍ، عَنْ عَلِيِّ بْنِ أَبِي طَلْحَةَ، عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ قَوْلُهُ، “ آبَاؤُكُمْ وَأَبْنَاؤُكُمْ لَا تَدْرُونَ أَيُّهُمْ أَقْرَبُ لَكُمْ نَفْعًا “، يَقُولُ: أَطْوَعُكُمْ لِلَّهِ مِنَ الْآبَاءِ وَالْأَبْنَاءِ، أَرْفَعُكُمْ دَرَجَةً يَوْمَ الْقِيَامَةِ، لِأَنَّ اللَّهَ سُبْحَانَهُ يُشَفِّعُ الْمُؤْمِنِينَ بَعْضُهُمْ فِي بَعْضٍ. وَقَالَ آخَرُونَ: مَعْنَى ذَلِكَ، لَا تَدْرُونَ أَيُّهُمْ أَقْرَبُ لَكُمْ نَفْعًا فِي الدُّنْيَا.
ذِكْرُ مَنْ قَالَ ذَلِكَ: حَدَّثَنِي مُحَمَّدُ بْنُ عَمْرٍو قَالَ: حَدَّثَنَا أَبُو عَاصِمٍ قَالَ: حَدَّثَنَا عِيسَى، عَنِ ابْنِ أَبِي نَجِيحٍ، عَنْ مُجَاهِدٍ فِي قَوْلِهِ: “ أَيُّهُمْ أَقْرَبُ لَكُمْ نَفْعًا “، فِي الدُّنْيَا. حَدَّثَنِي الْمُثَنَّى قَالَ: حَدَّثَنَا أَبُو حُذَيْفَةَ قَالَ: حَدَّثَنَا شِبْلٌ، عَنِ ابْنِ أَبِي نَجِيحٍ، عَنْ مُجَاهِدٍ، مِثْلَهُ. حَدَّثَنِي مُحَمَّدُ بْنُ الْحُسَيْنِ قَالَ: حَدَّثَنَا أَحْمَدُ بْنُ الْمُفَضَّلِ قَالَ: حَدَّثَنَا أَسْبَاطٌ، عَنِ السُّدِّيِّ قَوْلُهُ: “ لَا تَدْرُونَ أَيُّهُمْ أَقْرَبُ لَكُمْ نَفْعًا “، قَالَ بَعْضُهُمْ: فِي نَفْعِ الْآخِرَةِ، وَقَالَ بَعْضُهُمْ: فِي نَفْعِ الدُّنْيَا. وَقَالَ آخَرُونَ فِي ذَلِكَ بِمَا قُلْنَا.
ذِكْرُ مَنْ قَالَ ذَلِكَ: حَدَّثَنِي يُونُسُ قَالَ، أَخْبَرَنَا ابْنُ وَهْبٍ قَالَ، قَالَ ابْنُ زَيْدٍ فِي قَوْلِهِ: “ لَا تَدْرُونَ أَيُّهُمْ أَقْرَبُ لَكُمْ نَفْعًا “، قَالَ: أَيُّهُمْ خَيْرٌ لَكُمْ فِي الدِّينِ وَالدُّنْيَا، الْوَالِدُ أَوِ الْوَلَدُ الَّذِينَ يَرِثُونَكُمْ، لَمْ يُدْخِلْ عَلَيْكُمْ غَيْرُهُمْ، فَرَضَ لَهُمُ الْمَوَارِيثَ، لَمْ يَأْتِ بِآخَرِينَ يُشْرِكُونَهُمْ فِي أَمْوَالِكُمْ.
الْقَوْلُ فِي تَأْوِيلِ قَوْلِهِ تَعَالَى: {فَرِيضَةً مِنَ اللَّهِ إِنَّ اللَّهَ كَانَ عَلِيمًا حَكِيمًا}. قَالَ أَبُو جَعْفَرٍ: يَعْنِي بِقَوْلِهِ جَلَّ ثَنَاؤُهُ: “ فَرِيضَةً مِنَ اللَّهِ “، “ وَإِنْ كَانَ لَهُ إِخْوَةٌ فَلِأُمِّهِ السُّدُسُ “، فَرِيضَةً، يَقُولُ: سِهَامًا مَعْلُومَةً مُوَقَّتَةً بَيَّنَهَا اللَّهُ لَهُمْ. وَنَصْبُ قَوْلِهِ: “ فَرِيضَةً “ عَلَى الْمَصْدَرِ مِنْ قَوْلِهِ: “ يُوصِيكُمُ اللَّهُ فِي أَوْلَادِكُمْ لِلذَّكَرِ مِثْلُ حَظِّ الْأُنْثَيَيْنِ “ “ فَرِيضَةً “، فَأَخْرَجَ “ فَرِيضَةً “ مِنْ مَعْنَى الْكَلَامِ، إِذْ كَانَ مَعْنَاهُ مَا وَصَفْتُ. وَقَدْ يَجُوزُ أَنْ يَكُونَ نَصْبُهُ عَلَى الْخُرُوجِ مِنْ قَوْلِهِ: “ فَإِنْ كَانَ لَهُ إِخْوَةٌ فَلِأُمِّهِ السُّدُسُ “ “ فَرِيضَةً “، فَتَكُونُ “ الْفَرِيضَةُ “ مَنْصُوبَةً عَلَى الْخُرُوجِ مِنْ قَوْلِهِ: “ فَإِنْ كَانَ لَهُ إِخْوَةٌ فَلِأُمِّهِ السُّدُسُ “، كَمَا تَقُولُ: “ هُوَ لَكَ هِبَةٌ، وَهُوَ لَكَ صَدَقَةٌ مِنِّي عَلَيْكَ “. وَأَمَّا قَوْلُهُ: “ إِنَّ اللَّهَ كَانَ عَلِيمًا حَكِيمًا “، فَإِنَّهُ يَعْنِي جَلَّ ثَنَاؤُهُ: إِنَّ اللَّهَ لَمْ يَزَلْ ذَا عِلْمٍ بِمَا يُصْلِحُ خَلْقَهُ، أَيُّهَا النَّاسُ، فَانْتَهَوْا إِلَى مَا يَأْمُرُكُمْ، يُصْلِحْ لَكُمْ أُمُورَكُمْ. “ حَكِيمًا “، يَقُولُ: لَمْ يَزَلْ ذَا حِكْمَةٍ فِي تَدْبِيرِهِ، وَهُوَ كَذَلِكَ فِيمَا يَقْسِمُ لِبَعْضِكُمْ مِنْ مِيرَاثِ بَعْضٍ، وَفِيمَا يَقْضِي بَيْنَكُمْ مِنَ الْأَحْكَامِ، لَا يَدْخُلُ حُكْمَهُ خَلَلٌ وَلَا زَلَلٌ، لِأَنَّهُ قَضَاءُ مَنْ لَا تَخْفَى عَلَيْهِ مَوَاضِعُ الْمَصْلَحَةِ فِي الْبَدْءِ وَالْعَاقِبَةِ.
الْقَوْلُ فِي تَأْوِيلِ قَوْلِهِ: {وَلَكُمْ نِصْفُ مَا تَرَكَ أَزْوَاجُكُمْ إِنْ لَمْ يَكُنْ لَهُنَّ وَلَدٌ فَإِنْ كَانَ لَهُنَّ وَلَدٌ فَلَكُمُ الرُّبُعُ مِمَّا تَرَكْنَ مِنْ بَعْدِ وَصِيَّةٍ يُوصِينَ بِهَا أَوْ دَيْنٍ}. قَالَ أَبُو جَعْفَرٍ: يَعْنِي بِذَلِكَ جَلَّ ثَنَاؤُهُ، “ وَلَكُمْ “ أَيُّهَا النَّاسُ “ نِصْفُ مَا تَرَكَ أَزْوَاجُكُمْ “، بَعْدَ وَفَاتِهِنَّ مِنْ مَالٍ وَمِيرَاثٍ “ إِنْ لَمْ يَكُنْ لَهُنَّ وَلَدٌ “، يَوْمَ يَحْدُثُ بِهِنَّ الْمَوْتُ، لَا ذَكَرَ وَلَا أُنْثَى “ فَإِنْ كَانَ لَهُنَّ وَلَدٌ “، أَيْ: فَإِنْ كَانَ لِأَزْوَاجِكُمْ يَوْمَ يَحْدُثُ لَهُنَّ الْمَوْتُ، وَلَدٌ ذَكَرٌ أَوْ أُنْثَى “ فَلَكُمُ الرُّبُعُ مِمَّا تَرَكْنَ “، مَنْ مَالٍ وَمِيرَاثٍ، مِيرَاثًا لَكُمْ عَنْهُنَّ “ مِنْ بَعْدِ وَصِيَّةٍ يُوصِينَ بِهَا أَوْ دَيْنٍ “، يَقُولُ: ذَلِكُمْ لَكُمْ مِيرَاثًا عَنْهُنَّ، مِمَّا يَبْقَى مِنْ تَرِكَاتِهِنَّ وَأَمْوَالِهِنَّ، مِنْ بَعْدِ قَضَاءِ دُيُونِهِنَّ الَّتِي يَمُتْنَ وَهِيَ عَلَيْهِنَّ، وَمِنْ بَعْدِ إِنْفَاذِ وَصَايَاهُنَّ الْجَائِزَةِ إِنْ كُنَّ أَوْصِينَ بِهَا.
الْقَوْلُ فِي تَأْوِيلِ قَوْلِهِ: {وَلَهُنَّ الرُّبُعُ مِمَّا تَرَكْتُمْ إِنْ لَمْ يَكُنْ لَكُمْ وَلَدٌ فَإِنْ كَانَ لَكُمْ وَلَدٌ فَلَهُنَّ الثُّمُنُ مِمَّا تَرَكْتُمْ مِنْ بَعْدِ وَصِيَّةٍ تُوصُونَ بِهَا أَوْ دَيْنٍ}. قَالَ أَبُو جَعْفَرٍ: يَعْنِي جَلَّ ثَنَاؤُهُ بِقَوْلِهِ: “ وَلَهُنَّ الرُّبُعُ مِمَّا تَرَكْتُمْ إِنْ لَمْ يَكُنْ لَكُمْ وَلَدٌ “ وَلِأَزْوَاجِكُمْ، أَيُّهَا النَّاسُ، رُبُعُ مَا تَرَكْتُمْ بَعْدَ وَفَاتِكُمْ مِنْ مَالٍ وَمِيرَاثٍ، إِنْ حَدَثَ بِأَحَدِكُمْ حَدَثُ الْوَفَاةِ وَلَا وَلَدَ لَهُ ذَكَرًا وَلَا أُنْثَى “ فَإِنْ كَانَ لَكُمْ وَلَدٌ “، يَقُولُ: فَإِنْ حَدَثَ بِأَحَدِكُمْ حَدَثُ الْمَوْتُ وَلَهُ وَلَدٌ ذِكْرٌ أَوْ أُنْثَى، وَاحِدًا كَانَ الْوَلَدُ أَوْ جَمَاعَةً “ فَلَهُنَّ الثُّمُنُ مِمَّا تَرَكْتُمْ “، يَقُولُ: فَلِأَزْوَاجِكُمْ حِينَئِذٍ مِنْ أَمْوَالِكُمْ وَتَرْكَتِكُمُ الَّتِي تُخَلِّفُونَهَا بَعْدَ وَفَاتِكُمْ، الثُّمُنُ مِنْ بَعْدِ قَضَاءِ دُيُونِكُمُ الَّتِي حَدَثَ بِكُمْ حَدَثُ الْوَفَاةِ وَهِيَ عَلَيْكُمْ، وَمِنْ بَعْدِ إِنْفَاذِ وَصَايَاكُمُ الْجَائِزَةِ الَّتِي تُوصُونَ بِهَا. وَإِنَّمَا قِيلَ: “ مِنْ بَعْدِ وَصِيَّةٍ تُوصُونَ بِهَا أَوْ دَيْنٍ “، فَقَدَّمَ ذِكْرَ الْوَصِيَّةِ عَلَى ذِكْرِ الدَّيْنِ، لِأَنَّ مَعْنَى الْكَلَامِ: إِنَّ الَّذِي فَرَضْتُ لِمَنْ فَرَضْتُ لَهُ مِنْكُمْ فِي هَذِهِ الْآيَاتِ، إِنَّمَا هُوَ لَهُ مِنْ بَعْدِ إِخْرَاجِ أَيِ هَذَيْنِ كَانَ فِي مَالِ الْمَيِّتِ مِنْكُمْ، مِنْ وَصِيَّةٍ أَوْ دَيْنٍ. فَلِذَلِكَ كَانَ سَوَاءٌ تَقْدِيمَ ذِكْرِ الْوَصِيَّةِ قَبْلَ ذِكْرِ الدَّيْنِ، وَتَقْدِيمَ ذِكْرِ الدَّيْنِ قَبْلَ ذِكْرِ الْوَصِيَّةِ، لِأَنَّهُ لَمْ يَرِدْ مِنْ مَعْنَى ذَلِكَ إِخْرَاجُ الشَّيْئَيْنِ: “ الدَّيْنِ وَالْوَصِيَّةِ “ مِنْ مَالِهِ، فَيَكُونُ ذِكْرُ الدَّيْنِ أَوْلَى أَنْ يُبْدَأَ بِهِ مِنْ ذِكْرِ الْوَصِيَّةِ.
الْقَوْلُ فِي تَأْوِيلِ قَوْلِهِ: {وَإِنْ كَانَ رَجُلٌ يُورَثُ كَلَالَةً أَوِ امْرَأَةٌ}. قَالَ أَبُو جَعْفَرٍ: يَعْنِي بِذَلِكَ جَلَّ ثَنَاؤُهُ: وَإِنْ كَانَ رَجُلٌ أَوِ امْرَأَةٌ يُورَثُ كَلَالَةً. ثُمَّ اخْتَلَفَتِ الْقَرَأَةُ فِي قِرَاءَةِ ذَلِكَ. فَقَرَأَ ذَلِكَ عَامَّةُ قَرَأَةِ أَهْلِ الْإِسْلَامِ: (وَإِنْ كَانَ رَجُلٌ يُورَثُ كَلَالَةً)، يَعْنِي: وَإِنْ كَانَ رَجُلٌ يُورَثُ مُتَكَلَّلَ النَّسَبِ. فَـ “ الْكَلَالَةُ “ عَلَى هَذَا الْقَوْلِ، مَصْدَرٌ مِنْ قَوْلِهِمْ: “ تَكَلَّلَهُ النَّسَبَ تَكَلُّلًا وَكَلَالَةً “، بِمَعْنَى: تَعَطَّفَ عَلَيْهِ النَّسَبَ. وَقَرَأَهُ بَعْضُهُمْ: (وَإِنْ كَانَ رَجُلٌ يُورِثُ كَلَالَةً)، بِمَعْنَى: وَإِنْ كَانَ رَجُلٌ يُورِثُ مَنْ يَتَكَلَّلُهُ، بِمَعْنَى: مَنْ يَتَعَطَّفُ عَلَيْهِ بِنَسَبِهِ مِنْ أَخٍ أَوْ أُخْتٍ. وَاخْتَلَفَ أَهْلُ التَّأْوِيلِ فِي “ الْكَلَالَةِ “. فَقَالَ بَعْضُهُمْ: هِيَ مَا خَلَا الْوَالِدَ وَالْوَلَدَ.
ذِكْرُ مَنْ قَالَ ذَلِكَ: حَدَّثَنَا الْوَلِيدُ بْنُ شُجَاعٍ السَّكُونِيُّ قَالَ، حَدَّثَنِي عَلِيُّ بْنُ مُسْهِرٍ، عَنْ عَاصِمٍ، عَنِ الشَّعْبِيِّ قَالَ: قَالَ أَبُو بَكْرٍ رَحْمَةُ اللَّهِ عَلَيْهِ: إِنِّي قَدْ رَأَيْتُ فِي الْكَلَالَةِ رَأْيًا فَإِنْ كَانَ صَوَابًا فَمِنَ اللَّهِ وَحْدَهُ لَا شَرِيكَ لَهُ، وَإِنْ يَكْ خَطَأً فَمِنِّي وَمِنَ الشَّيْطَانِ، وَاللَّهُ مِنْهُ بَرِيءٌ: إِنَّ الْكَلَالَةَ مَا خَلَا الْوَلَدَ وَالْوَالِدَ. فَلَمَّا اسْتُخْلِفَ عُمَرُ رَحْمَةُ اللَّهِ عَلَيْهِ قَالَ: إِنِّي لَأَسْتَحْيِي مِنَ اللَّهِ تَبَارَكَ وَتَعَالَى أَنْ أُخَالِفَ أَبَا بَكْرٍ فِي رَأْيٍ رَآهُ. حَدَّثَنِي يَعْقُوبُ بْنُ إِبْرَاهِيمَ قَالَ: حَدَّثَنَا هُشَيْمٌ قَالَ، أَخْبَرَنَا عَاصِمٌ الْأَحْوَلُ قَالَ: حَدَّثَنَا الشَّعْبِيُّ: أَنَّ أَبَا بَكْرٍ رَحِمَهُ اللَّهُ قَالَ فِي الْكَلَالَةِ: أَقُولُ فِيهَا بِرَأْيِي، فَإِنْ كَانَ صَوَابًا فَمِنَ اللَّهِ: هُوَ مَا دُونَ الْوَلَدِ وَالْوَالِدِ. قَالَ: فَلَمَّا كَانَ عُمَرُ رَحِمَهُ اللَّهُ قَالَ: إِنِّي لَأَسْتَحْيِي مِنَ اللَّهِ أَنْ أُخَالِفَ أَبَا بَكْرٍ. حَدَّثَنَا [يُونُسُ بْنُ عَبَدِ الْأَعْلَى ] قَالَ، أَخْبَرَنَا سُفْيَانُ، عَنْ عَاصِمٍ الْأَحْوَلِ، عَنِ الشَّعْبِيِّ: أَنَّ أَبَا بَكْرٍ وَعُمَرَ بْنَ الْخَطَّابِ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا قَالَا: الْكَلَالَةُ مَنْ لَا وَلَدَ لَهُ وَلَا وَالِدَ. حَدَّثَنَا ابْنُ وَكِيعٍ قَالَ، حَدَّثَنِي أَبِي، عَنْ عِمْرَانَ بْنِ حُدَيْرٍ، عَنِ السُّمَيْطِ قَالَ: كَانَ عُمَرُ رَجُلًا أَيْسَرَ، فَخَرَجَ يَوْمًا وَهُوَ يَقُولُ بِيَدِهِ هَكَذَا، يُدِيرُهَا، إِلَّا أَنَّهُ قَالَ، أَتَى عَلَيَّ حِينٌ وَلَسْتُ أَدْرِي مَا الْكَلَالَةُ، أَلَا وَإِنَّ الْكَلَالَةَ مَا خَلَا الْوَلَدَ وَالْوَالِدَ. حَدَّثَنَا ابْنُ وَكِيعٍ قَالَ: حَدَّثَنَا أَبِي، عَنْ سُفْيَانَ، عَنْ جَابِرٍ، عَنْ عَامِرٍ، عَنْ أَبِي بَكْرٍ قَالَ: الْكَلَالَةُ مَا خَلَا الْوَلَدَ وَالْوَالِدَ. حَدَّثَنِي يُونُسُ قَالَ، أَخْبَرَنَا سُفْيَانُ، عَنْ عَمْرِو بْنِ دِينَارٍ، عَنِ الْحَسَنِ بْنِ مُحَمَّدٍ، عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ قَالَ: الْكَلَالَةُ مَنْ لَا وَلَدَ لَهُ وَلَا وَالِدَ. حَدَّثَنِي يُونُسُ قَالَ، أَخْبَرَنَا ابْنُ وَهْبٍ قَالَ، سَمِعْتُ ابْنَ جُرَيْجٍ يُحَدِّثُ، عَنْ عَمْرِو بْنِ دِينَارٍ، عَنِ الْحَسَنِ بْنِ مُحَمَّدٍ، عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ قَالَ: الْكَلَالَةُ مَنْ لَا وَلَدَ لَهُ وَلَا وَالِدَ. حَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ بَشَّارٍ قَالَ: حَدَّثَنَا مُؤَمَّلٌ قَالَ: حَدَّثَنَا سُفْيَانُ، عَنْ عَمْرِو بْنِ دِينَارٍ، عَنِ الْحَسَنِ بْنِ مُحَمَّدِ بْنِ الْحَنَفِيَّةِ، عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ، قَالَ: الْكَلَالَةُ مَا خَلَا الْوَلَدَ وَالْوَالِدَ. حَدَّثَنَا ابْنُ بَشَّارٍ وَابْنُ وَكِيعٍ قَالَا حَدَّثَنَا عَبْدُ الرَّحْمَنِ قَالَ: حَدَّثَنَا أَبِي، عَنْ إِسْرَائِيلَ، عَنْ أَبِي إِسْحَاقَ، عَنْ سُلَيْمِ بْنِ عَبْدٍ، عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ بِمِثْلِهِ. حَدَّثَنَا ابْنُ وَكِيعٍ قَالَ: حَدَّثَنَا أَبِي، عَنْ إِسْرَائِيلَ، عَنْ أَبِي إِسْحَاقَ، عَنْ سُلَيْمِ بْنِ عَبْدٍ السَلُولِيِّ، عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ قَالَ: الْكَلَالَةُ مَا خَلَا الْوَلَدَ وَالْوَالِدَ. حَدَّثَنِي الْمُثَنَّى قَالَ: حَدَّثَنَا عَبْدُ اللَّهِ بْنُ صَالِحٍ قَالَ، حَدَّثَنِي مُعَاوِيَةُ بْنُ صَالِحٍ، عَنْ عَلِيِّ بْنِ أَبِي طَلْحَةَ، عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ قَوْلُهُ: “ وَإِنْ كَانَ رَجُلٌ يُورَثُ كَلَالَةً أَوِ امْرَأَةٌ “، قَالَ: الْكَلَالَةُ مَنْ لَمْ يَتْرُكْ وَلَدًا وَلَا وَالِدًا. حَدَّثَنِي مُحَمَّدُ بْنُ عُبَيْدٍ الْمُحَارِبِيُّ قَالَ: حَدَّثَنَا أَبُو الْأَحْوَصِ، عَنْ أَبِي إِسْحَاقَ، عَنْ سُلَيْمِ بْنِ عَبْدٍ قَالَ: مَا رَأَيْتُهُمْ إِلَّا قَدِ اتَّفَقُوا أَنَّ مَنْ مَاتَ وَلَمْ يَدَعْ وَلَدًا وَلَا وَالِدًا، أَنَّهُ كَلَالَةٌ. حَدَّثَنَا تَمِيمُ بْنُ الْمُنْتَصِرِ قَالَ: حَدَّثَنَا إِسْحَاقُ بْنُ يُوسُفَ، عَنْ شَرِيكٍ، عَنْ أَبِي إِسْحَاقَ، عَنْ سُلَيْمِ بْنِ عَبْدٍ قَالَ: مَا رَأَيْتُهُمْ إِلَّا قَدْ أَجْمَعُوا أَنَّ الْكَلَالَةَ الَّذِي لَيْسَ لَهُ وَلَدٌ وَلَا وَالِدٌ. حَدَّثَنَا ابْنُ بَشَّارٍ قَالَ: حَدَّثَنَا عَبْدُ الرَّحْمَنِ قَالَ: حَدَّثَنَا سُفْيَانُ، عَنْ أَبِي إِسْحَاقَ، عَنْ سُلَيْمِ بْنِ عَبْدٍ قَالَ: الْكَلَالَةُ مَا خَلَا الْوَلَدَ وَالْوَالِدَ. حَدَّثَنَا ابْنُ وَكِيعٍ قَالَ: حَدَّثَنَا ابْنُ فُضَيْلٍ، عَنْ أَشْعَثَ، عَنْ أَبِي إِسْحَاقَ، عَنْ سُلَيْمِ بْنِ عَبْدٍ قَالَ: أَدْرَكْتُهُمْ وَهُمْ يَقُولُونَ، إِذَا لَمْ يَدَعِ الرَّجُلُ وَلَدًا وَلَا وَالِدًا، وُرِّثَ كَلَالَةً. حَدَّثَنَا بِشْرُ بْنُ مُعَاذٍ قَالَ: حَدَّثَنَا يَزِيدُ بْنُ زُرَيْعٍ قَالَ: حَدَّثَنَا سَعِيدٌ، عَنْ قَتَادَةَ قَوْلُهُ: “ وَإِنْ كَانَ رَجُلٌ يُورَثُ كَلَالَةً أَوِ امْرَأَةٌ “، وَالْكَلَالَةُ الَّذِي لَا وَلَدَ لَهُ وَلَا وَالِدَ، لَا أَبَ وَلَا جَدَّ، وَلَا ابْنَ وَلَا ابْنَةَ، فَهَؤُلَاءِ الْإِخْوَةُ مِنَ الْأُمِّ. حَدَّثَنِي مُحَمَّدُ بْنُ الْمُثَنَّى قَالَ: حَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ جَعْفَرٍ، عَنْ شُعْبَةَ، عَنِ الْحَكَمِ قَالَ فِي الْكَلَالَةِ: مَا دُونَ الْوَلَدِ وَالْوَالِدِ. حَدَّثَنَا يُونُسُ قَالَ، أَخْبَرَنَا ابْنُ وَهْبٍ قَالَ، قَالَ ابْنُ زَيْدٍ: الْكَلَالَةُ كُلُّ مَنْ لَا يَرِثُهُ وَالِدٌ وَلَا وَلَدٌ، وَكُلُّ مَنْ لَا وَلَدَ لَهُ وَلَا وَالِدَ فَهُوَ يُورَثُ كَلَالَةً، مِنْ رِجَالِهِمْ وَنِسَائِهِمْ. حَدَّثَنَا الْحَسَنُ بْنُ يَحْيَى قَالَ، أَخْبَرَنَا عَبْدُ الرَّزَّاقِ قَالَ، أَخْبَرَنَا مَعْمَرٌ، عَنْ قَتَادَةَ وَالزُّهْرِيِّ وَأَبِي إِسْحَاقَ، قَالَ: الْكَلَالَةُ مَنْ لَيْسَ لَهُ وَلَدٌ وَلَا وَالِدٌ. حَدَّثَنَا ابْنُ وَكِيعٍ قَالَ: حَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ مُحَمَّدٍ، عَنْ مَعْمَرٍ، عَنِ الزُّهْرِيِّ وَقَتَادَةَ وَأَبِي إِسْحَاقَ مِثْلَهُ. وَقَالَ آخَرُونَ: “ الْكَلَالَةُ مَا دُونَ الْوَلَدِ “، وَهَذَا قَوْلٌ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ، وَهُوَ الْخَبَرُ الَّذِي ذَكَرْنَاهُ قَبْلُ مِنْ رِوَايَةِ طَاوُسٍ عَنْهُ: أَنَّهُ وَرَّثَ الْإِخْوَةَ مِنَ الْأُمِّ السُّدُسَ مَعَ الْأَبَوَيْنِ. وَقَالَ آخَرُونَ: الْكَلَالَةُ مَا خَلَا الْوَالِدَ.
ذِكْرُ مَنْ قَالَ ذَلِكَ: حَدَّثَنَا ابْنُ الْمُثَنَّى قَالَ: حَدَّثَنَا سَهْلُ بْنُ يُوسُفَ، عَنْ شُعْبَةَ، قَالَ: سَأَلْتُ الْحَكَمَ عَنِ الْكَلَالَةِ قَالَ: فَهُوَ مَا دُونَ الْأَبِ. وَاخْتَلَفَ أَهْلُ الْعَرَبِيَّةِ فِي النَّاصِبِ لِلْكَلَالَةِ. فَقَالَ بَعْضُ الْبَصْرِيِّينَ: إِنْ شِئْتَ نَصَبْتَ “ كَلَالَةً “ عَلَى خَبَرِ “ كَانَ “، وَجَعَلْتَ “ يُورَثُ “ مِنْ صِفَةِ “ الرَّجُلِ “. وَإِنْ شِئْتَ جَعَلْتَ “ كَانَ “ تَسْتَغْنِي عَنِ الْخَبَرِ نَحْوَ “ وَقْعَ “، وَجَعَلَتْ نَصْبَ “ كَلَالَةٍ “ عَلَى الْحَالِ، أَيْ: يُورَثُ كَلَالَةً، كَمَا يُقَالُ: “ يُضْرَبُ قَائِمًا “. وَقَالَ بَعْضُهُمْ قَوْلُهُ: “ كَلَالَةً “، خَبَرُ “ كَانَ “، لَا يَكُونُ الْمَوْرُوثُ كَلَالَةً، وَإِنَّمَا الْوَارِثُ الْكَلَالَةُ. قَالَ أَبُو جَعْفَرٍ وَالصَّوَابُ مِنَ الْقَوْلِ فِي ذَلِكَ عِنْدِي أَنَّ “ الْكَلَالَةَ “ مَنْصُوبٌ عَلَى الْخُرُوجِ مِنْ قَوْلِهِ: “ يُورَثُ “، وَخَبَرُ “ كَانَ “ “ يُورَثُ “. وَ“ الْكَلَالَةُ “ وَإِنْ كَانَتْ مَنْصُوبَةً بِالْخُرُوجِ مِنْ “ يُورَثُ “، فَلَيْسَتْ مَنْصُوبَةً عَلَى الْحَالِ، وَلَكِنْ عَلَى الْمَصْدَرِ مِنْ مَعْنَى الْكَلَامِ. لِأَنَّ مَعْنَى الْكَلَامِ: وَإِنْ كَانَ رَجُلٌ يُورَثُ مُتَكَلِّلُهُ النَّسَبُ كَلَالَةً ثُمَّ تَرَكَ ذِكْرَ “ مُتَكَلِّلِهِ “ اكْتِفَاءً بِدَلَالَةِ قَوْلِهِ: “ يُورَثُ “ عَلَيْهِ. وَاخْتَلَفَ أَهْلُ الْعِلْمِ فِي الْمُسَمَّى “ كَلَالَةً “. فَقَالَ بَعْضُهُمْ: “ الْكَلَالَةُ “ الْمَوْرُوثُ، وَهُوَ الْمَيِّتُ نَفْسُهُ، يُسَمَّى بِذَلِكَ إِذَا وَرِثَهُ غَيْرُ وَالِدِهِ وَوَلَدِهِ.
ذِكْرُ مَنْ قَالَ ذَلِكَ: حَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ الْحُسَيْنِ قَالَ: حَدَّثَنَا أَحْمَدُ بْنُ الْمُفَضَّلِ قَالَ: حَدَّثَنَا أَسْبَاطٌ، عَنِ السُّدِّيِّ قَوْلَهُ فِي الْكَلَالَةِ، قَالَ: الَّذِي لَا يَدَعُ وَالِدًا وَلَا وَلَدًا. حَدَّثَنَا ابْنُ وَكِيعٍ قَالَ: حَدَّثَنَا ابْنُ عُيَيْنَةَ، عَنْ سُلَيْمَانَ الْأَحْوَلِ، عَنْ طَاوُسٍ، عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ قَالَ: كُنْتُ آخِرَ النَّاسِ عَهْدًا بِعُمَرَ رَحِمَهُ اللَّهُ، فَسَمِعْتُهُ يَقُولُ: الْقَوْلُ مَا قُلْتُ. قُلْتُ: وَمَا قُلْتَ؟ قَالَ: الْكَلَالَةُ مَنْ لَا وَلَدَ لَهُ. حَدَّثَنَا ابْنُ وَكِيعٍ قَالَ: حَدَّثَنَا أَبِي وَيَحْيَى بْنُ آدَمَ، عَنْ إِسْرَائِيلَ، عَنْ أَبِي إِسْحَاقَ، عَنْ سُلَيْمِ بْنِ عَبْدٍ، عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ قَالَ: الْكَلَالَةُ مَنْ لَا وَلَدَ لَهُ وَلَا وَالِدَ. وَقَالَ آخَرُونَ: “ الْكَلَالَةُ “، هِيَ الْوَرَثَةُ الَّذِينَ يَرِثُونَ الْمَيِّتَ، إِذَا كَانُوا إِخْوَةً أَوْ أَخَوَاتٍ أَوْ غَيْرَهُمْ، إِذَا لَمْ يَكُونُوا وَلَدًا وَلَا وَالِدًا، عَلَى مَا قَدْ ذَكَرْنَا مِنَ اخْتِلَافِهِمْ فِي ذَلِكَ. وَقَالَ آخَرُونَ: بَلِ “ الْكَلَالَةُ “ الْمَيِّتُ وَالْحَيُّ جَمِيعًا.
ذِكْرُ مَنْ قَالَ ذَلِكَ: حَدَّثَنِي يُونُسُ قَالَ أَخْبَرَنَا ابْنُ وَهْبٍ قَالَ قَالَ ابْنُ زَيْدٍ: الْكَلَالَةُ الْمَيِّتُ الَّذِي لَا وَلَدَ لَهُ وَلَا وَالِدَ أَوِ الْحَيُّ، كُلُّهُمْ “ كَلَالَةٌ “، هَذَا يَرِثُ بِالْكَلَالَةِ، وَهَذَا يُورَثُ بِالْكَلَالَةِ. قَالَ أَبُو جَعْفَرٍ: وَالصَّوَابُ مِنَ الْقَوْلِ فِي ذَلِكَ عِنْدِي مَا قَالَهُ هَؤُلَاءِ، وَهُوَ أَنَّ “ الْكَلَالَةَ “ الَّذِينَ يَرِثُونَ الْمَيِّتَ، مَنْ عَدَا وَلَدَهُ وَوَالِدَهُ، وَذَلِكَ لِصِحَّةِ الْخَبَرِ الَّذِي ذَكَرْنَاهُ عَنْ جَابِرِ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ أَنَّهُ قَالَ: قَلْتُ: يَا رَسُولَ اللَّهِ؟ إِنَّمَا يَرِثُنِي كَلَالَةٌ، فَكَيْفَ بِالْمِيرَاثِ وَبِمَا:- حَدَّثَنِي يَعْقُوبُ بْنُ إِبْرَاهِيمَ قَالَ: حَدَّثَنَا ابْنُ عُلَيَّةَ، عَنِ ابْنِ عَوْنٍ، عَنْ عَمْرِو بْنِ سَعِيدٍ قَالَ، كُنَّا مَعَ حُمَيْدِ بْنِ عَبْدِ الرَّحْمَنِ فِي سُوقِ الرَّقِيقِ، قَالَ: فَقَامَ مِنْ عِنْدِنَا ثُمَّ رَجَعَ، فَقَالَ: هَذَا آخِرُ ثَلَاثَةٍ مِنْ بَنِي سَعِدٍ حَدَّثُونِي هَذَا الْحَدِيثَ، قَالُوا: مَرِضَ سَعْدٌ بِمَكَّةَ مَرَضًا شَدِيدًا، قَالَ: فَأَتَاهُ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَعُودُهُ. فَقَالَ: يَا رَسُولَ اللَّهِ، لِي مَالٌ كَثِيرٌ، وَلَيْسَ لِي وَارِثٌ إِلَّا كَلَالَةٌ، فَأُوصِي بِمَالِي كُلِّهِ؟ فَقَالَ: لَا. حَدَّثَنِي يَعْقُوبُ بْنُ إِبْرَاهِيمَ قَالَ: حَدَّثَنَا ابْنُ عُلَيَّةَ قَالَ: حَدَّثَنَا إِسْحَاقُ بْنُ سُوِيدٍ، عَنِ الْعَلَاءِ بْنِ زِيَادٍ قَالَ: جَاءَ شَيْخٌ إِلَى عُمَرَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ فَقَالَ: إِنِّي شَيْخٌ، وَلَيْسَ لِي وَارِثٌ إِلَّا كَلَالَةُ أَعْرَابٍ مُتَرَاخٍ نَسَبُهُمْ، أَفَأُوصِي بِثُلُثِ مَالِي؟ قَالَ: لَا. فَقَدْ أَنْبَأَتْ هَذِهِ الْأَخْبَارُ عَنْ صِحَّةِ مَا قُلْنَا فِي مَعْنَى “ الْكَلَالَةِ “، وَأَنَّهَا وَرَثَةُ الْمَيِّتِ دُونَ الْمَيِّتِ، مِمَّنْ عَدَا وَالِدَهُ وَوَلَدَهُ.
الْقَوْلُ فِي تَأْوِيلِ قَوْلِهِ: {وَلَهُ أَخٌ أَوْ أُخْتٌ فَلِكُلِّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا السُّدُسُ فَإِنْ كَانُوا أَكْثَرَ مِنْ ذَلِكَ فَهُمْ شُرَكَاءُ فِي الثُّلُثِ}. قَالَ أَبُو جَعْفَرٍ: يَعْنِي بِقَوْلِهِ جَلَّ ثَنَاؤُهُ: “ وَلَهُ أَخٌ أَوْ أُخْتٌ “، وَلِلرَّجُلِ الَّذِي يُورَثُ كَلَالَةً أَخٌ أَوْ أُخْتٌ، يَعْنِي: أَخًا أَوْ أُخْتًا مِنْ أُمِّهِ، كَمَا:- حَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ بَشَّارٍ قَالَ: حَدَّثَنَا عَبْدُ الرَّحْمَنِ قَالَ: حَدَّثَنَا سُفْيَانُ، عَنْ يَعْلَى بْنِ عَطَاءٍ، عَنِ الْقَاسِمُ، عَنْ سَعْدٍ أَنَّهُ كَانَ يَقْرَأُ: “ وَإِنْ كَانَ رَجُلٌ يُورَثُ كَلَالَةً أَوِ امْرَأَةٌ وَلَهُ أَخٌ أَوْ أُخْتٌ “ قَالَ، سَعْدٌ: لِأُمِّهِ. حَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ الْمُثَنَّى قَالَ: حَدَّثَنَا عَبْدُ الرَّحْمَنِ قَالَ: حَدَّثَنَا شُعْبَةُ، عَنْ يَعْلَى بْنِ عَطَاءٍ قَالَ: سَمِعْتُ الْقَاسِمَ بْنَ رَبِيعَةَ يَقُولُ: قَرَأَتْ عَلَى سَعْدٍ: “ وَإِنْ كَانَ رَجُلٌ يُورَثُ كَلَالَةً أَوِ امْرَأَةٌ وَلَهُ أَخٌ أَوْ أُخْتٌ “ قَالَ، سَعْدٌ: لِأُمِّهِ. حَدَّثَنِي مُحَمَّدُ بْنُ الْمُثَنَّى قَالَ: حَدَّثَنَا وَهْبُ بْنُ جَرِيرٍ قَالَ: حَدَّثَنَا شُعْبَةُ، عَنْ يَعْلَى بْنِ عَطَاءٍ، عَنِ الْقَاسِمِ بْنِ رَبِيعَةَ بْنِ قَانِفٍ قَالَ: قَرَأْتُ عَلَى سَعْدٍ، فَذَكَرَ نَحْوَهُ. حَدَّثَنِي يَعْقُوبُ بْنُ إِبْرَاهِيمَ قَالَ، أَخْبَرَنَا هُشَيْمٌ قَالَ، أَخْبَرَنَا يَعْلَى بْنُ عَطَاءٍ، عَنِ الْقَاسِمِ بْنِ رَبِيعَةَ قَالَ: سَمِعْتُ سَعْدَ بْنَ أَبِي وَقَّاصٍ قَرَأَ: “ وَإِنْ كَانَ رَجُلٌ يُورَثُ كَلَالَةً وَلَهُ أَخٌ أَوْ أُخْتٌ مِنْ أُمِّهِ “. حَدَّثَنَا بِشْرُ بْنُ مُعَاذٍ قَالَ: حَدَّثَنَا يَزِيدُ بْنُ زُرَيْعٍ قَالَ: حَدَّثَنَا سَعِيدٌ، عَنْ قَتَادَةَ قَوْلُهُ: “ وَلَهُ أَخٌ أَوْ أُخْتٌ “ فَهَؤُلَاءِ الْإِخْوَةُ مِنَ الْأُمِّ: إِنْ كَانَ وَاحِدًا فَلَهُ السُّدُسُ، وَإِنْ كَانُوا أَكْثَرَ مِنْ ذَلِكَ فَهُمْ شُرَكَاءُ فِي الثُّلُثِ، ذَكَرُهُمْ وَأُنْثَاهُمْ فِيهِ سَوَاءٌ. حَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ الْحُسَيْنِ قَالَ: حَدَّثَنَا أَحْمَدُ بْنُ مُفَضَّلٍ قَالَ: حَدَّثَنَا أَسْبَاطٌ، عَنِ السُّدِّيِّ: “ وَإِنْ كَانَ رَجُلٌ يُورَثُ كَلَالَةً أَوِ امْرَأَةٌ وَلَهُ أَخٌ أَوْ أُخْتٌ “، فَهَؤُلَاءِ الْإِخْوَةُ مِنَ الْأُمِّ، فَهُمْ شُرَكَاءُ فِي الثُّلُثِ، سَوَاءٌ الذَّكَرُ وَالْأُنْثَى. قَالَ أَبُو جَعْفَرٍ: وَقَوْلُهُ: “ فَلِكُلِّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا السُّدُسُ “، إِذَا انْفَرَدَ الْأَخُ وَحْدَهُ أَوِ الْأُخْتُ وَحْدَهَا، وَلَمْ يَكُنْ أَخٌ غَيْرُهُ أَوْ غَيْرُهَا مِنْ أُمِّهِ، فَلَهُ السُّدُسُ مِنْ مِيرَاثِ أَخِيهِ لِأُمِّهِ. فَإِنِ اجْتَمَعَ أَخٌ وَأُخْتٌ، أَوْ أَخَوَانِ لَا ثَالِثَ مَعَهُمَا لِأُمِّهِمَا، أَوْ أُخْتَانِ كَذَلِكَ، أَوْ أَخٌ وَأُخْتٌ لَيْسَ مَعَهُمَا غَيْرُهُمَا مِنْ أُمِّهِمَا فَلِكُلِّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا مِنْ مِيرَاثِ أَخِيهِمَا لِأُمِّهِمَا السُّدُسُ “ فَإِنْ كَانُوا أَكْثَرَ مِنْ ذَلِكَ “، يَعْنِي: فَإِنْ كَانَ الْإِخْوَةُ وَالْأَخَوَاتُ لِأُمِّ الْمَيِّتِ الْمَوْرُوثِ كَلَالَةً أَكْثَرَ مِنَ اثْنَيْنِ “ فَهُمْ شُرَكَاءُ فِي الثُّلُثِ “، يَقُولُ: فَالثُّلُثُ الَّذِي فَرَضْتُ لِاثْنَيْهِمْ إِذَا لَمْ يَكُنْ غَيْرُهُمَا مِنْ أُمِّهِمَا مِيرَاثًا لَهُمَا مِنْ أَخِيهِمَا الْمَيِّتِ الْمَوْرُوثِ كَلَالَةً، شَرِكَةً بَيْنَهُمْ، إِذَا كَانُوا أَكْثَرَ مِنَ اثْنَيْنِ إِلَى مَا بَلَغَ عَدَدُهُمْ عَلَى عَدَدِ رُءُوسِهِمْ، لَا يُفَضَّلُ ذَكَرٌ مِنْهُمْ عَلَى أُنْثَى فِي ذَلِكَ، وَلَكِنَّهُ بَيْنَهُمْ بِالسَّوِيَّةِ. فَإِنْ قَالَ قَائِلٌ: وَكَيْفَ قِيلَ: “ وَلَهُ أَخٌ أَوْ أُخْتٌ “، وَلَمْ يُقَلْ: “ لَهُمَا أَخٌ أَوْ أُخْتٌ “، وَقَدْ ذَكَرَ قَبْلَ ذَلِكَ “ رَجُلٌ أَوِ امْرَأَةٌ “، فَقِيلَ: “ وَإِنْ كَانَ رَجُلٌ يُورَثُ كَلَالَةً أَوِ امْرَأَةٌ “؟ قِيلَ: إِنَّ مِنْ شَأْنِ الْعَرَبِ إِذَا قَدَّمَتْ ذِكْرَ اسْمَيْنِ قَبْلَ الْخَبَرِ، فَعَطَفَتْ أَحَدَهُمَا عَلَى الْآخَرِ “ بِـ “ أَوْ “، ثُمَّ أَتَتْ بِالْخَبَرِ، أَضَافَتِ الْخَبَرَ إِلَيْهِمَا أَحْيَانًا، وَأَحْيَانًا إِلَى أَحَدِهِمَا، وَإِذَا أَضَافَتْ إِلَى أَحَدِهِمَا، كَانَ سَوَاءً عِنْدَهَا إِضَافَةُ ذَلِكَ إِلَى أَيِّ الِاسْمَيْنِ اللَّذَيْنِ ذَكَرَتْهُمَا إِضَافَتَهُ، فَتَقُولُ: “ مَنْ كَانَ عِنْدَهُ غُلَامٌ أَوْ جَارِيَةٌ فَلْيُحْسِنْ إِلَيْهِ “، يَعْنِي: فَلْيُحْسِنْ إِلَى الْغُلَامِ- وَ“ فَلْيُحْسِنْ إِلَيْهَا “، يَعْنِي: فَلْيُحْسِنْ إِلَى الْجَارِيَةِ- وَ“ فَلْيُحْسِنْ إِلَيْهِمَا “. وَأَمَّا قَوْلُهُ: “ فَلِكُلِّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا السُّدُسُ “، وَقَدْ تَقَدَّمَ ذِكْرُ الْأَخِ وَالْأُخْتِ بِعَطْفِ أَحَدِهِمَا عَلَى الْآخَرِ، وَالدَّلَالَةُ عَلَى أَنَّ الْمُرَادَ بِمَعْنَى الْكَلَامِ أَحَدَهُمَا فِي قَوْلِهِ: “ وَلَهُ أَخٌ أَوْ أُخْتٌ “، فَإِنَّ ذَلِكَ إِنَّمَا جَازَ، لِأَنَّ مَعْنَى الْكَلَامِ، فَلِكُلِّ وَاحِدٍ مِنَ الْمَذْكُورِينَ السُّدُسُ.
الْقَوْلُ فِي تَأْوِيلِ قَوْلِهِ: {مِنْ بَعْدِ وَصِيَّةٍ يُوصَى بِهَا أَوْ دَيْنٍ غَيْرَ مُضَارٍّ وَصِيَّةً مِنَ اللَّهِ وَاللَّهُ عَلِيمٌ حَلِيمٌ}. قَالَ أَبُو جَعْفَرٍ: يَعْنِي جَلَّ ثَنَاؤُهُ بِقَوْلِهِ: “ مِنْ بَعْدِ وَصِّيةٍ يُوصِي بِهَا “، أَيْ: هَذَا الَّذِي فَرَضْتُ لِأَخِي الْمَيِّتِ الْمَوْرُوثِ كَلَالَةً وَأُخْتِهِ أَوْ إِخْوَتِهِ وَأَخَوَاتِهِ مِنْ مِيرَاثِهِ وَتَرِكَتِهِ، إِنَّمَا هُوَ لَهُمْ مِنْ بَعْدِ قَضَاءِ دَيْنِ الْمَيِّتِ الَّذِي كَانَ عَلَيْهِ يَوْمَ حَدَثَ بِهِ حَدَثُ الْمَوْتِ مِنْ تَرِكَتِهِ، وَبَعْدَ إِنْفَاذِ وَصَايَاهُ الْجَائِزَةِ الَّتِي يُوصِي بِهَا فِي حَيَاتِهِ لِمَنْ أَوْصَى لَهُ بِهَا بَعْدَ وَفَاتِهِ، كَمَا: حَدَّثَنَا بِشْرُ بْنُ مُعَاذٍ قَالَ: حَدَّثَنَا يَزِيدُ قَالَ: حَدَّثَنَا سَعِيدٌ، عَنْ قَتَادَةَ: “ مِنْ بَعْدِ وَصِيَّةٍ يُوصِي بِهَا أَوْ دَيْنٍ “، وَالدَّيْنُ أَحَقُّ مَا بُدِئَ بِهِ مِنْ جَمِيعِ الْمَالِ، فَيُؤَدَّى عَنْ أَمَانَةِ الْمَيِّتِ، ثُمَّ الْوَصِيَّةُ، ثُمَّ يُقَسِّمُ أَهْلُ الْمِيرَاثِ مِيرَاثَهُمْ. وَأَمَّا قَوْلُهُ: “ غَيْرَ مُضَارٍّ “، فَإِنَّهُ يَعْنِي تَعَالَى ذِكْرُهُ: مِنْ بَعْدِ وَصِيَّةٍ يُوصِي بِهَا، غَيْرَ مُضَارٍّ وَرَثَتَهُ فِي مِيرَاثِهِمْ عَنْهُ، كَمَا: حَدَّثَنِي مُحَمَّدُ بْنُ عَمْرٍو قَالَ: حَدَّثَنَا أَبُو عَاصِمٍ قَالَ: حَدَّثَنَا عِيسَى، عَنِ ابْنِ أَبِي نَجِيحٍ، عَنْ مُجَاهِدٍ فِي قَوْلِهِ: “ غَيْرَ مُضَارٍّ “، قَالَ: فِي مِيرَاثِ أَهْلِهِ. حَدَّثَنِي الْقَاسِمُ قَالَ: حَدَّثَنَا الْحُسَيْنُ قَالَ، حَدَّثَنِي حَجَّاجٌ، عَنِ ابْنِ جُرَيْجٍ، عَنْ مُجَاهِدٍ قَوْلُهُ: “ غَيْرَ مُضَارٍّ “، قَالَ: فِي مِيرَاثِ أَهْلِهِ. حَدَّثَنَا بِشْرُ بْنُ مُعَاذٍ قَالَ: حَدَّثَنَا يَزِيدُ قَالَ: حَدَّثَنَا سَعِيدُ، عَنْ قَتَادَةَ قَوْلُهُ: “ غَيْرَ مُضَارٍّ وَصِيَّةً مِنَ اللَّهِ “، وَإِنَّ اللَّهَ تَبَارَكَ وَتَعَالَى كَرِهَ الضِّرَارَ فِي الْحَيَاةِ وَعِنْدَ الْمَوْتِ، وَنَهَى عَنْهُ، وَقَدَّمَ فِيهِ، فَلَا تَصْلُحُ مُضَارَّةٌ فِي حَيَاةٍ وَلَا مَوْتٍ. حَدَّثَنِي نَصْرُ بْنُ عَبْدِ الرَّحْمَنِ الْأَزْدِيُّ قَالَ: حَدَّثَنَا عُبَيْدَةُ بْنُ حُمَيْدٍ وَحَدَّثَنِي يَعْقُوبُ بْنُ إِبْرَاهِيمَ قَالَ: حَدَّثَنَا ابْنُ عُلَيَّةَ جَمِيعًا، عَنْ دَاوُدَ بْنِ أَبِي هِنْدٍ، عَنْ عِكْرِمَةَ، عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ فِي هَذِهِ الْآيَةِ: “ غَيْرَ مُضَارٍّ وَصِيَّةً مِنَ اللَّهِ وَاللَّهُ عَلِيمٌ حَلِيمٌ “، قَالَ: الضِّرَارُ فِي الْوَصِيَّةِ مِنَ الْكَبَائِرِ. حَدَّثَنَا ابْنُ أَبِي الشَّوَارِبِ قَالَ: حَدَّثَنَا يَزِيدُ بْنُ زُرَيْعٍ قَالَ: حَدَّثَنَا دَاوُدُ، عَنْ عِكْرِمَةَ، عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ قَالَ: الضِّرَارُ فِي الْوَصِيَّةِ مِنَ الْكَبَائِرِ. حَدَّثَنَا حُمَيْدُ بْنُ مَسْعَدَةَ قَالَ: حَدَّثَنَا بِشْرُ بْنُ الْمُفَضَّلِ قَالَ: حَدَّثَنَا دَاوُدُ، عَنْ عِكْرِمَةَ، عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ مِثْلَهُ. حَدَّثَنَا ابْنُ الْمُثَنَّى قَالَ: حَدَّثَنَا عَبْدُ الْوَهَّابِ قَالَ: حَدَّثَنَا دَاوُدُ، عَنْ عِكْرِمَةَ، عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ قَالَ: الْحَيْفُ فِي الْوَصِيَّةِ مِنَ الْكَبَائِرِ. حَدَّثَنَا ابْنُ الْمُثَنَّى قَالَ: حَدَّثَنَا ابْنُ أَبِي عَدِيٍّ وَعَبْدُ الْأَعْلَى قَالَا حَدَّثَنَا دَاوُدُ، عَنْ عِكْرِمَةَ، عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ قَالَ: الضِّرَارُ وَالْحَيْفُ فِي الْوَصِيَّةِ مِنَ الْكَبَائِرِ. حَدَّثَنِي مُوسَى بْنُ سَهْلٍ الرَّمْلِيُّ قَالَ: حَدَّثَنَا إِسْحَاقُ بْنُ إِبْرَاهِيمَ أَبُو النَّضْرِ قَالَ: حَدَّثَنَا عُمَرُ بْنُ الْمُغِيرَةِ قَالَ: حَدَّثَنَا دَاوُدُ بْنُ أَبِي هِنْدٍ، عَنْ عِكْرِمَةَ، عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ، عَنِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ: “ الضِّرَارُ فِي الْوَصِيَّةِ مِنَ الْكَبَائِرِ “. حَدَّثَنِي يَعْقُوبُ بْنُ إِبْرَاهِيمَ قَالَ: حَدَّثَنَا هُشَيْمٌ قَالَ، أَخْبَرَنَا أَبُو عَمْرٍو التَّيْمِيُّ، عَنْ أَبِي الضُّحَى قَالَ: دَخَلْتُ مَعَ مَسْرُوقٍ عَلَى مَرِيضٍ، فَإِذَا هُوَ يُوصِي قَالَ: فَقَالَ لَهُ مَسْرُوقٌ: اعْدِلْ لَا تُضْلِلْ. وَنُصِبَتْ “ غَيْرَ مُضَارٍّ “ عَلَى الْخُرُوجِ مِنْ قَوْلِهِ: “ يُوصَى بِهَا “. وَأَمَّا قَوْلُهُ: “ وَصِيَّةً “ فَإِنَّ نَصْبَهُ مِنْ قَوْلِهِ: “ يُوصِيكُمُ اللَّهُ فِي أَوْلَادِكُمْ لِلذَّكَرِ مِثْلُ حَظِّ الْأُنْثَيَيْنِ “، وَسَائِرُ مَا أَوْصَى بِهِ فِي الِاثْنَيْنِ، ثُمَّ قَالَ: “ وَصِيَّةً مِنَ اللَّهِ “، مَصْدَرًا مِنْ قَوْلِهِ: “ يُوصِيكُمْ “. وَقَدْ قَالَ بَعْضُ أَهْلِ الْعَرَبِيَّةِ: ذَلِكَ مَنْصُوبٌ مِنْ قَوْلِهِ: “ فَلِكُلِّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا السُّدُسُ “ “ وَصِيَّةً مِنَ اللَّهِ “، وَقَالَ: هُوَ مِثْلُ قَوْلِكَ: “ لَكَ دِرْهَمَانِ نَفَقَةً إِلَى أَهْلِكَ “. قَالَ أَبُو جَعْفَرٍ: وَالَّذِي قُلْنَاهُ بِالصَّوَابِ أَوْلَى، لِأَنَّ اللَّهَ جَلَّ ثَنَاؤُهُ افْتَتَحَ ذِكْرَ قِسْمَةِ الْمَوَارِيثِ فِي هَاتَيْنِ الْآيَتَيْنِ بِقَوْلِهِ: “ يُوصِيكُمُ اللَّهُ “، ثُمَّ خَتَمَ ذَلِكَ بِقَوْلِهِ: “ وَصِيَّةً مِنَ اللَّهِ “، أَخْبَرَ أَنَّ جَمِيعَ ذَلِكَ وَصِيَّةً مِنْهُ بِهِ عِبَادَهُ، فَنَصْبُ قَوْلِهِ: “ وَصِيَّةً “ عَلَى الْمَصْدَرِ مِنْ قَوْلِهِ: “ يُوصِيكُمْ “، أَوْلَى مِنْ نَصْبِهِ عَلَى التَّفْسِيرِ مِنْ قَوْلِهِ: “ فَلِكُلِّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا السُّدُسُ “، لِمَا ذَكَرْنَا. وَيَعْنِي بِقَوْلِهِ تَعَالَى ذِكْرُهُ: “ وَصِيَّةً مِنَ اللَّهِ “، عَهْدًا مِنَ اللَّهِ إِلَيْكُمْ فِيمَا يَجِبُ لَكُمْ مِنْ مِيرَاثِ مَنْ مَاتَ مِنْكُمْ “ وَاللَّهُ عَلِيمٌ “، يَقُولُ: وَاللَّهُ ذُو عِلْمٍ بِمَصَالِحِ خَلْقِهِ وَمُضَارِّهِمْ، وَمَنْ يَسْتَحِقُّ أَنْ يُعْطَى مِنْ أَقْرِبَاءِ مَنْ مَاتَ مِنْكُمْ وَأَنْسِبَائِهِ مِنْ مِيرَاثِهِ، وَمَنْ يُحْرَمُ ذَلِكَ مِنْهُمْ، وَمَبْلَغُ مَا يَسْتَحِقُّ بِهِ كُلُّ مَنِ اسْتَحَقَّ مِنْهُمْ قَسْمًا، وَغَيْرِ ذَلِكَ مِنْ أُمُورِ عِبَادِهِ وَمَصَالِحِهِمْ “ حَلِيمٌ “، يَقُولُ: ذُو حِلْمٍ عَلَى خَلْقِهِ، وَذُو أَنَاةٍ فِي تَرْكِهِ مُعَاجَلَتِهِمْ بِالْعُقُوبَةِ عَلَى ظُلْمِ بَعْضِهِمْ بَعْضًا، فِي إِعْطَائِهِمُ الْمِيرَاثَ لِأَهْلِ الْجَلَدِ وَالْقُوَّةِ مِنْ وَلَدِ الْمَيِّتِ، وَأَهْلِ الْغَنَاءِ وَالْبَأْسِ مِنْهُمْ، دُونَ أَهْلِ الضَّعْفِ وَالْعَجْزِ مِنْ صِغَارِ وَلَدِهِ وَإِنَاثِهِمْ.
الْقَوْلُ فِي تَأْوِيلِ قَوْلِهِ تَعَالَى: {تِلْكَ حُدُودُ اللَّهِ وَمَنْ يُطِعِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ يُدْخِلْهُ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهَارُ خَالِدِينَ فِيهَا وَذَلِكَ الْفَوْزُ الْعَظِيمُ}. قَالَ أَبُو جَعْفَرٍ: اخْتَلَفَ أَهْلُ التَّأْوِيلِ فِي تَأْوِيلِ قَوْلِهِ: “ تِلْكَ حُدُودُ اللَّهِ “. فَقَالَ بَعْضُهُمْ: يَعْنِي بِهِ: تِلْكَ شُرُوطُ اللَّهِ.
ذِكْرُ مَنْ قَالَ ذَلِكَ: حَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ الْحُسَيْنِ قَالَ: حَدَّثَنَا أَحْمَدُ بْنُ مُفَضَّلٍ قَالَ: حَدَّثَنَا أَسْبَاطٌ، عَنِ السُّدِّيِّ: “ تِلْكَ حُدُودُ اللَّهِ “، يَقُولُ: شُرُوطُ اللَّهِ. وَقَالَ آخَرُونَ: بَلْ مَعْنَى ذَلِكَ: تِلْكَ طَاعَةُ اللَّهِ.
ذِكْرُ مَنْ قَالَ ذَلِكَ: حَدَّثَنِي الْمُثَنَّى قَالَ: حَدَّثَنَا أَبُو صَالِحٍ قَالَ: حَدَّثَنَا مُعَاوِيَةُ بْنُ صَالِحٍ، عَنْ عَلِيِّ بْنِ أَبِي طَلْحَةَ، عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ قَوْلُهُ: “ تِلْكَ حُدُودُ اللَّهِ “، يَعْنِي: طَاعَةَ اللَّهِ، يَعْنِي الْمَوَارِيثَ الَّتِي سَمَّى اللَّهُ. وَقَالَ آخَرُونَ: مَعْنَى ذَلِكَ: تِلْكَ سُنَّةُ اللَّهِ وَأَمْرُهُ. وَقَالَ آخَرُونَ: بَلْ مَعْنَى ذَلِكَ: تِلْكَ فَرَائِضُ اللَّهِ. وَقَالَ أَبُو جَعْفَرٍ: وَأَوْلَى الْأَقْوَالِ فِي ذَلِكَ بِالصَّوَابِ مَا نَحْنُ مبيِّنُوهُ، وَهُوَ أَنَّ “ حَدَّ “ كُلِّ شَيْءٍ: مَا فَصَلَ بَيْنَهُ وَبَيْنَ غَيْرِهِ، وَلِذَلِكَ قِيلَ لِحُدُودِ الدَّارِ وَحُدُودِ الْأَرْضِينَ: “ حُدُودٌ “، لِفَصْلِهَا بَيْنَ مَا حُدَّ بِهَا وَبَيْنَ غَيْرِهِ. فَكَذَلِكَ قَوْلُهُ: “ تِلْكَ حُدُودُ اللَّهِ “، مَعْنَاهُ: هَذِهِ الْقِسْمَةُ الَّتِي قَسَمَهَا لَكُمْ رَبُّكُمْ، وَالْفَرَائِضُ الَّتِي فَرَضَهَا لِأَحْيَائِكُمْ مِنْ مَوْتَاكُمْ فِي هَذِهِ الْآيَةِ عَلَى مَا فَرَضَ وَبَيَّنَ فِي هَاتَيْنِ الْآيَتَيْنِ، “ حُدُودُ اللَّهِ “، يَعْنِي: فُصُولَ مَا بَيْنَ طَاعَةِ اللَّهِ وَمَعْصِيَتِهِ فِي قَسْمِكُمْ مَوَارِيثَ مَوْتَاكُمْ، كَمَا قَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ. وَإِنَّمَا تَرَكَ “ طَاعَةَ اللَّهِ “، وَالْمَعْنِيُّ بِذَلِكَ: حُدُودُ طَاعَةِ اللَّهِ، اكْتِفَاءً بِمَعْرِفَةِ الْمُخَاطَبِينَ بِذَلِكَ بِمَعْنَى الْكَلَامِ مِنْ ذَكْرِهَا. وَالدَّلِيلُ عَلَى صِحَّةِ مَا قُلْنَا فِي ذَلِكَ قَوْلُهُ: “ وَمَنْ يُطِعِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ “، وَالْآيَةَ الَّتِي بَعْدَهَا: “ وَمَنْ يَعْصِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ “. فَتَأْوِيلُ الْآيَةِ إذًا: هَذِهِ الْقِسْمَةُ- الَّتِي قَسَمَ بَيْنَكُمْ، أَيُّهَا النَّاسُ، عَلَيْهَا رَبُّكُمْ مَوَارِيثَ مَوْتَاكُمْ- فُصُولٌ فَصَلَ بِهَا لَكُمْ بَيْنَ طَاعَتِهِ وَمَعْصِيَتِهِ، وَحُدُودٌ لَكُمْ تَنْتَهُونَ إِلَيْهَا فَلَا تَتَعَدُّوهَا، لِيَعْلَمَ مِنْكُمْ أَهْلَ طَاعَتِهِ مِنْ أَهْلِ مَعْصِيَتِهِ، فِيمَا أَمَرَكُمْ بِهِ مِنْ قِسْمَةِ مَوَارِيثِ مَوْتَاكُمْ بَيْنَكُمْ، وَفِيمَا نَهَاكُمْ عَنْهُ مِنْهَا. ثُمَّ أَخْبَرَ جَلَّ ثَنَاؤُهُ عَمَّا أَعَدَّ لِكُلِّ فَرِيقٍ مِنْهُمْ فَقَالَ لِفَرِيقِ أَهْلِ طَاعَتِهِ فِي ذَلِكَ: “ وَمَنْ يُطِعِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ “ فِي الْعَمَلِ بِمَا أَمَرَهُ بِهِ، وَالِانْتِهَاءِ إِلَى مَا حَدَّهُ لَهُ فِي قِسْمَةِ الْمَوَارِيثِ وَغَيْرِهَا، وَيَجْتَنِبْ مَا نَهَاهُ عَنْهُ فِي ذَلِكَ وَغَيْرِهِ “ يُدْخِلْهُ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهَارُ “. فَقَوْلُهُ: “ يُدْخِلْهُ جَنَّاتٍ “، يَعْنِي: بَسَاتِينَ تَجْرِي مِنْ تَحْتِ غُرُوسِهَا وَأَشْجَارِهَا الْأَنْهَارُ “ خَالِدِينَ فِيهَا “، يَقُولُ: بَاقِينَ فِيهَا أَبَدًا لَا يَمُوتُونَ فِيهَا وَلَا يَفْنَوْنَ، وَلَا يُخْرَجُونَ مِنْهَا “ وَذَلِكَ الْفَوْزُ الْعَظِيمُ “. يَقُولُ: وَإِدْخَالُ اللَّهِ إِيَّاهُمُ الْجِنَانَ الَّتِي وَصَفَهَا عَلَى مَا وَصَفَ مِنْ ذَلِكَ “ الْفَوْزُ الْعَظِيمُ “، يَعْنِي: الْفَلَحَ الْعَظِيمَ. وَبِنَحْوِ مَا قُلْنَا فِي ذَلِكَ قَالَ أَهْلُ التَّأْوِيلِ.
ذِكْرُ مَنْ قَالَ ذَلِكَ: حَدَّثَنَا الْقَاسِمُ قَالَ: حَدَّثَنَا الْحُسَيْنُ قَالَ: حَدَّثَنَا حَجَّاجٌ، عَنِ ابْنِ جُرَيْجٍ، عَنْ مُجَاهِدٍ: “ تِلْكَ حُدُودُ اللَّهِ وَمَنْ يُطِعِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ يُدْخِلْهُ “ الْآيَةَ، قَالَ: فِي شَأْنِ الْمَوَارِيثِ الَّتِي ذَكَرَ قَبْلُ. حَدَّثَنَا بِشْرُ بْنُ مُعَاذٍ قَالَ: حَدَّثَنَا يَزِيدُ قَالَ: حَدَّثَنَا سَعِيدٌ، عَنْ قَتَادَةَ قَوْلُهُ: “ تِلْكَ حُدُودُ اللَّهِ “، الَّتِي حَدَّ لِخَلْقِهِ، وَفَرَائِضِهِ بَيْنَهُمْ مِنَ الْمِيرَاثِ وَالْقِسْمَةِ، فَانْتَهَوْا إِلَيْهَا وَلَا تَعَدُّوهَا إِلَى غَيْرِهَا.
الْقَوْلُ فِي تَأْوِيلِ قَوْلِهِ: {وَمَنْ يَعْصِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ وَيَتَعَدَّ حُدُودَهُ يُدْخِلْهُ نَارًا خَالِدًا فِيهَا وَلَهُ عَذَابٌ مُهِينٌ}. قَالَ أَبُو جَعْفَرٍ: يَعْنِي بِذَلِكَ جَلَّ ثَنَاؤُهُ: “ وَمَنْ يَعْصِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ “ فِي الْعَمَلِ بِمَا أَمَرَاهُ بِهِ مِنْ قِسْمَةِ الْمَوَارِيثِ عَلَى مَا أَمَرَاهُ بِقِسْمَةِ ذَلِكَ بَيْنَهُمْ وَغَيْرِ ذَلِكَ مِنْ فَرَائِضِ اللَّهِ، مُخَالِفًا أَمْرَهُمَا إِلَى مَا نَهَيَاهُ عَنْهُ “ وَيَتَعَدَّ حُدُودَهُ “، يَقُولُ: وَيَتَجَاوَزُ فُصُولَ طَاعَتِهِ الَّتِي جَعَلَهَا تَعَالَى فَاصِلَةً بَيْنَهَا وَبَيْنَ مَعْصِيَتِهِ، إِلَى مَا نَهَاهُ عَنْهُ مِنْ قِسْمَةِ تَرِكَاتِ مَوْتَاهُمْ بَيْنَ وَرَثَتِهِمْ وَغَيْرِ ذَلِكَ مِنْ حُدُودِهِ “ يُدْخِلْهُ نَارًا خَالِدًا فِيهَا “، يَقُولُ: بَاقِيًا فِيهَا أَبَدًا لَا يَمُوتُ وَلَا يَخْرُجُ مِنْهَا أَبَدًا “ وَلَهُ عَذَابٌ مُهِينٌ “، يَعْنِي: وَلَهُ عَذَابٌ مُذِلٌّ مَنْ عُذِّبَ بِهِ مُخْزٍ لَهُ. وَبِنَحْوِ مَا قُلْنَا فِي تَأْوِيلِ ذَلِكَ قَالَ أَهْلُ التَّأْوِيلِ.
ذِكْرُ مَنْ قَالَ ذَلِكَ: حَدَّثَنَا الْمُثَنَّى قَالَ: حَدَّثَنَا عَبْدُ اللَّهِ بْنُ صَالِحٍ قَالَ، حَدَّثَنِي مُعَاوِيَةُ بْنُ صَالِحٍ، عَنْ عَلِيِّ بْنِ أَبِي طَلْحَةَ، عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ: “ وَمَنْ يَعْصِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ وَيَتَعَدَّ حُدُودَهُ “، الْآيَةَ، فِي شَأْنِ الْمَوَارِيثِ الَّتِي ذَكَرَ قَبْلُ قَالَ ابْنُ جُرَيْجٍ: “ وَمَنْ يَعْصِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ “، قَالَ: مَنْ أَصَابَ مِنَ الذُّنُوبِ مَا يُعَذِّبُ اللَّهُ عَلَيْهِ. فَإِنْ قَالَ قَائِلٌ: أوَ مُخَلَّدٌ فِي النَّارِ مَنْ عَصَى اللَّهَ وَرَسُولَهُ فِي قِسْمَةِ الْمَوَارِيثِ؟ قِيلَ: نَعَمْ، إِذَا جَمَعَ إِلَى مَعْصِيَتِهِمَا فِي ذَلِكَ شَكًّا فِي أَنَّ اللَّهَ فَرَضَ عَلَيْهِ مَا فَرَضَ عَلَى عِبَادِهِ فِي هَاتَيْنِ الْآيَتَيْنِ، أَوْ عَلِمَ ذَلِكَ فَحَادَّ اللَّهَ وَرَسُولَهُ فِي أَمْرِهِمَا عَلَى مَا ذَكَرَ ابْنُ عَبَّاسٍ مِنْ قَوْلِ مَنْ قَالَ حِينَ نَـزَلَ عَلَى رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَوْلَ اللَّهِ تَبَارَكَ وَتَعَالَى: (يُوصِيكُمُ اللَّهُ فِي أَوْلَادِكُمْ لِلذَّكَرِ مِثْلُ حَظِّ الْأُنْثَيَيْنِ) إِلَى تَمَامِ الْآيَتَيْنِ: أَيُوَرَّثُ مَنْ لَا يَرْكَبُ الْفَرَسَ وَلَا يُقَاتِلُ الْعَدُوَّ وَلَا يَحُوزُ الْغَنِيمَةَ، نِصْفَ الْمَالِ أَوْ جَمِيعَ الْمَالِ؟ اسْتِنْكَارًا مِنْهُمْ قِسْمَةَ اللَّهِ مَا قَسَمَ لِصِغَارِ وَلِدِ الْمَيِّتِ وَنِسَائِهِ وَإِنَاثِ وَلَدِهِ مِمَّنْ خَالَفَ قِسْمَةَ اللَّهِ مَا قَسَمَ مِنْ مِيرَاثِ أَهْلِ الْمِيرَاثِ بَيْنَهُمْ عَلَى مَا قَسَمَهُ فِي كِتَابِهِ، وَخَالَفَ حُكْمَهُ فِي ذَلِكَ وَحُكْمَ رَسُولِهِ، اسْتِنْكَارًا مِنْهُ حَكَمَهُمَا، كَمَا اسْتَنْكَرَهُ الَّذِينَ ذَكَرَ أَمْرَهُمِ ابْنُ عَبَّاسٍ مِمَّنْ كَانَ بَيْنَ أَظْهُرِ أَصْحَابِ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مِنَ الْمُنَافِقِينَ الَّذِينَ فِيهِمْ نَـزَلَتْ وَفِي أَشْكَالِهِمْ هَذِهِ الْآيَةُ فَهُوَ مِنْ أَهْلِ الْخُلُودِ فِي النَّارِ، لِأَنَّهُ بِاسْتِنْكَارِهِ حُكْمَ اللَّهِ فِي تِلْكَ، يَصِيرُ بِاللَّهِ كَافِرًا، وَمِنْ مِلَّةِ الْإِسْلَامِ خَارِجًا.
الْقَوْلُ فِي تَأْوِيلِ قَوْلِهِ: {وَاللَّاتِي يَأْتِينَ الْفَاحِشَةَ مِنْ نِسَائِكُمْ فَاسْتَشْهِدُوا عَلَيْهِنَّ أَرْبَعَةً مِنْكُمْ فَإِنْ شَهِدُوا فَأَمْسِكُوهُنَّ فِي الْبُيُوتِ حَتَّى يَتَوَفَّاهُنَّ الْمَوْتُ أَوْ يَجْعَلَ اللَّهُ لَهُنَّ سَبِيلًا}. قَالَ أَبُو جَعْفَرٍ: يَعْنِي بِقَوْلِهِ جَلَّ ثَنَاؤُهُ: “ وَاللَّاتِي يَأْتِينَ الْفَاحِشَةَ “ وَالنِّسَاءَ اللَّاتِي يَأْتِينَ بِالزِّنَا، أَيْ يَزْنِينَ “ مِنْ نِسَائِكُمْ “، وَهُنَّ مُحْصَنَاتٌ ذَوَاتُ أَزْوَاجٍ أَوْ غَيْرُ ذَوَاتِ أَزْوَاجٍ “ فَاسْتَشْهِدُوا عَلَيْهِنَّ أَرْبَعَةً مِنْكُمْ “، يَقُولُ: فَاسْتَشْهِدُوا عَلَيْهِنَّ بِمَا أَتَيْنَ بِهِ مِنَ الْفَاحِشَةِ أَرْبَعَةَ رِجَالٍ مِنْ رِجَالِكُمْ، يَعْنِي: مِنَ الْمُسْلِمِينَ “ فَإِنْ شَهِدُوا “ عَلَيْهِنَّ “ فَأَمْسِكُوهُنَّ فِي الْبُيُوتِ “، يَقُولُ: فَاحْبِسُوهُنَّ فِي الْبُيُوتِ “ حَتَّى يَتَوَفَّاهُنَّ الْمَوْتُ “، يَقُولُ: حَتَّى يَمُتْنَ “ أَوْ يَجْعَلَ اللَّهُ لَهُنَّ سَبِيلًا “، يَعْنِي: أَوْ يَجْعَلُ اللَّهُ لَهُنَّ مَخْرَجًا وَطَرِيقًا إِلَى النَّجَاةِ مِمَّا أَتَيْنَ بِهِ مِنَ الْفَاحِشَةِ. وَبِنَحْوِ مَا قُلْنَا فِي ذَلِكَ قَالَ أَهْلُ التَّأْوِيلِ.
ذِكْرُ مَنْ قَالَ ذَلِكَ: حَدَّثَنَا أَبُو هِشَامٍ الرِّفَاعِيُّ مُحَمَّدُ بْنُ يَزِيدَ قَالَ: حَدَّثَنَا يَحْيَى بْنُ أَبِي زَائِدَةَ، عَنِ ابْنِ جُرَيْجٍ، عَنْ مُجَاهِدٍ: “ وَاللَّاتِي يَأْتِينَ الْفَاحِشَةَ مِنْ نِسَائِكُمْ فَاسْتَشْهِدُوا عَلَيْهِنَّ أَرْبَعَةً مِنْكُمْ فَإِنْ شَهِدُوا فَأَمْسِكُوهُنَّ فِي الْبُيُوتِ “، أَمَرَ بِحَبْسِهِنَّ فِي الْبُيُوتِ حَتَّى يَمُتْنَ “ أَوْ يَجْعَلَ اللَّهُ لَهُنَّ سَبِيلًا “، قَالَ: الْحَدُّ. حَدَّثَنِي مُحَمَّدُ بْنُ عَمْرٍو قَالَ: حَدَّثَنَا أَبُو عَاصِمٍ، عَنِ ابْنِ أَبِي نَجِيحٍ، عَنْ مُجَاهِدٍ فِي قَوْلِهِ: “ وَاللَّاتِي يَأْتِينَ الْفَاحِشَةَ مِنْ نِسَائِكُمْ “، قَالَ: الزِّنَا، كَانَ أَمَرَ بِحَبْسِهِنَّ حِينَ يَشْهَدُ عَلَيْهِنَّ أَرْبَعَةٌ حَتَّى يَمُتْنَ “ أَوْ يَجْعَلَ اللَّهُ لَهُنَّ سَبِيلًا “، وَالسَّبِيلُ الْحَدُّ. حَدَّثَنَا الْمُثَنَّى قَالَ: حَدَّثَنَا عَبْدُ اللَّهِ بْنُ صَالِحٍ قَالَ، حَدَّثَنِي مُعَاوِيَةُ بْنُ صَالِحٍ، عَنْ عَلِيِّ بْنِ أَبِي طَلْحَةَ، عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ قَوْلُهُ: “ وَاللَّاتِي يَأْتِينَ الْفَاحِشَةَ مِنْ نِسَائِكُمْ “ إِلَى “ أَوْ يَجْعَلَ اللَّهُ لَهُنَّ سَبِيلًا “، فَكَانَتِ الْمَرْأَةُ إِذَا زَنَتْ حَبِسَتْ فِي الْبَيْتِ حَتَّى تَمُوتَ، ثُمَّ أَنْـزَلَ اللَّهُ تَبَارَكَ وَتَعَالَى بَعْدَ ذَلِكَ: (الزَّانِيَةُ وَالزَّانِي فَاجْلِدُوا كُلَّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا مِائَةَ جَلْدَةٍ) [سُورَةُ النُّورِ: 2]، فَإِنْ كَانَا مُحْصَنَيْنِ رُجُمَا. فَهَذَا سَبِيلُهُمَا الَّذِي جَعَلَ اللَّهُ لَهُمَا. حَدَّثَنِي مُحَمَّدُ بْنُ سَعْدٍ قَالَ، حَدَّثَنِي أَبِي قَالَ، حَدَّثَنِي عَمِّي قَالَ، حَدَّثَنِي أَبِي، عَنْ أَبِيهِ، عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ قَوْلُهُ: “ أَوْ يَجْعَلَ اللَّهُ لَهُنَّ سَبِيلًا “، فَقَدْ جَعَلَ اللَّهُ لَهُنَّ، وَهُوَ الْجَلْدُ وَالرَّجْمُ. حَدَّثَنِي بِشْرُ بْنُ مُعَاذٍ قَالَ: حَدَّثَنَا يَزِيدُ قَالَ: حَدَّثَنَا سَعِيدٌ، عَنْ قَتَادَةَ قَوْلُهُ: “ وَاللَّاتِي يَأْتِينَ الْفَاحِشَةَ “، حَتَّى بَلَغَ: “ أَوْ يَجْعَلَ اللَّهُ لَهُنَّ سَبِيلًا “، كَانَ هَذَا مِنْ قَبْلِ الْحُدُودِ، فَكَانَا يُؤَذَيَانِ بِالْقَوْلِ جَمِيعًا، وَبِحَبْسِ الْمَرْأَةِ. ثُمَّ جَعَلَ اللَّهُ لَهُنَّ سَبِيلًا فَكَانَ سَبِيلُ مَنْ أَحْصَنَ جَلْدَ مِائَةٍ ثُمَّ رَمْيًا بِالْحِجَارَةِ، وَسَبِيلُ مَنْ لَمْ يُحْصِنْ جَلْدَ مِائَةٍ وَنَفْيَ سَنَةٍ. حَدَّثَنَا الْقَاسِمُ قَالَ: حَدَّثَنَا الْحُسَيْنُ قَالَ: حَدَّثَنَا حَجَّاجٌ، عَنِ ابْنِ جُرَيْجٍ قَالَ: قَالَ عَطَاءُ بْنُ أَبِي رَبَاحٍ وَعَبْدُ اللَّهِ بْنُ كَثِيرٍ: “ الْفَاحِشَةُ “، “ الزِّنَا “، “ وَالسَّبِيلُ “ الْحَدُّ، الرَّجْمُ وَالْجَلْدُ. حَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ الْحُسَيْنِ قَالَ: حَدَّثَنَا أَحْمَدُ بْنُ مُفَضَّلٍ قَالَ: حَدَّثَنَا أَسْبَاطٌ، عَنِ السُّدِّيِّ: “ وَاللَّاتِي يَأْتِينَ الْفَاحِشَةَ مِنْ نِسَائِكُمْ فَاسْتَشْهِدُوا عَلَيْهِنَّ أَرْبَعَةً مِنْكُمْ “ إِلَى: “ أَوْ يَجْعَلَ اللَّهُ لَهُنَّ سَبِيلًا “، هَؤُلَاءِ اللَّاتِي قَدْ نَكَحْنَ وَأُحْصِنَّ. إِذَا زَنَتِ الْمَرْأَةُ فَإِنَّهَا كَانَتْ تُحْبَسُ فِي الْبَيْتِ، وَيَأْخُذُ زَوْجُهَا مَهْرَهَا فَهُوَ لَهُ، فَذَلِكَ قَوْلُهُ: (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا يَحِلُّ لَكُمْ أَنْ تَرِثُوا النِّسَاءَ كَرْهًا وَلَا تَعْضُلُوهُنَّ لِتَذْهَبُوا بِبَعْضِ مَا آتَيْتُمُوهُنَّ إِلَّا أَنْ يَأْتِينَ بِفَاحِشَةٍ مُبَيِّنَةٍ) الزِّنَا (وَعَاشِرُوهُنَّ بِالْمَعْرُوفِ) [سُورَةُ النِّسَاءِ: 19]، حَتَّى جَاءَتِ الْحُدُودُ فَنَسَخَتْهَا، فَجُلِدَتْ وَرُجِمَتْ، وَكَانَ مَهْرُهَا مِيرَاثًا، فَكَانَ “ السَّبِيلُ “ هُوَ الْجَلْدُ. حُدِّثْتُ عَنِ الْحُسَيْنِ بْنِ الْفَرَجِ قَالَ، سَمِعْتُ أَبَا مُعَاذٍ يَقُولُ، أَخْبَرَنَا عُبَيْدُ بْنُ سَلْمَانَ قَالَ، سَمِعْتُ الضَّحَّاكَ بْنَ مُزَاحِمٍ يَقُولُ فِي قَوْلِهِ: “ أَوْ يَجْعَلَ اللَّهُ لَهُنَّ سَبِيلًا “، قَالَ: الْحَدُّ، نَسَخَ الْحَدُّ هَذِهِ الْآيَةَ. حَدَّثَنَا أَبُو هِشَامٍ الرِّفَاعِيُّ قَالَ: حَدَّثَنَا يَحْيَى، عَنْ إِسْرَائِيلَ، عَنْ خُصَيْفٍ، عَنْ مُجَاهِدٍ: “ أَوْ يَجْعَلَ اللَّهُ لَهُنَّ سَبِيلًا “، قَالَ: جَلْدُ مِائَةٍ، الْفَاعِلَ وَالْفَاعِلَةَ. حَدَّثَنَا الرِّفَاعِيُّ قَالَ: حَدَّثَنَا يَحْيَى، عَنْ وَرْقَاءَ، عَنِ ابْنِ أَبِي نَجِيحٍ، عَنْ مُجَاهِدٍ قَالَ: الْجَلْدُ. حَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ بَشَّارٍ قَالَ: حَدَّثَنَا مُعَاذُ بْنُ هِشَامٍ قَالَ: حَدَّثَنَا أَبِي، عَنْ قَتَادَةَ، عَنِ الْحَسَنِ، عَنْ حِطَّانَ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ الرَّقَاشِيِّ، عَنْ عُبَادَةَ بْنِ الصَّامِتِ، أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ كَانَ إِذَا نَـزَلَ عَلَيْهِ الْوَحْيُ نَكَّسَ رَأْسَهُ، وَنَكَّسَ أَصْحَابُهُ رُؤُوسَهُمْ، فَلَمَّا سُرِّيَ عَنْهُ رَفْعَ رَأْسَهُ فَقَالَ: قَدْ جَعَلَ اللَّهُ لَهُنَّ سَبِيلًا الثَّيِّبُ بِالثَّيِّبِ، وَالْبِكْرُ بِالْبِكْرِ. أَمَّا الثَّيِّبُ فَتُجْلَدُ ثُمَّ تُرْجَمُ، وَأَمَّا الْبِكْرُ فَتُجْلَدُ ثُمَّ تُنْفَى “. حَدَّثَنَا ابْنُ بَشَّارٍ قَالَ: حَدَّثَنَا عَبْدُ الْأَعْلَى قَالَ: حَدَّثَنَا سَعِيدٌ، عَنْ قَتَادَةَ، عَنِ الْحَسَنِ، عَنْ حِطَّانَ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ، عَنْ عُبَادَةَ بْنِ الصَّامِتِ قَالَ: قَالَ نَبِيُّ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: “ خُذُوا عَنِّي، قَدْ جَعَلَ اللَّهُ لَهُنَّ سَبِيلًا الثَّيِّبُ بِالثَّيِّبِ تُجْلَدُ مِائَةً وَتُرْجَمُ بِالْحِجَارَةِ، وَالْبِكْرُ جَلْدُ مِائَةٍ وَنَفْيُ سَنَةٍ “. حَدَّثَنَا بِشْرٌ قَالَ: حَدَّثَنَا يَزِيدُ قَالَ: حَدَّثَنَا سَعِيدٌ، عَنْ قَتَادَةَ عَنِ الْحَسَنِ، عَنْ حِطَّانَ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ أَخِي بَنِي رَقَاشٍ، عَنْ عُبَادَةَ بْنِ الصَّامِتِ: أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ كَانَ إِذَا نَـزَلَ عَلَيْهِ الْوَحْيُ كَرِبَ لِذَلِكَ وَتَرَبَّدَ لَهُ وَجْهُهُ، فأَنْـزَلَ اللَّهُ عَلَيْهِ ذَاتَ يَوْمٍ، فَلَقِيَ ذَلِكَ. فَلَمَّا سُرِّيَ عَنْهُ قَالَ: “ خُذُوا عَنِّي، قَدْ جَعَلَ اللَّهُ لَهُنَّ سَبِيلًا الثَّيِّبُ بِالثَّيِّبِ، جَلْدُ مِائَةٍ ثُمَّ رَجْمٌ بِالْحِجَارَةِ، وَالْبِكْرُ بِالْبِكْرِ، جَلْدُ مِائَةٍ ثُمَّ نَفِيُ سَنَةٍ “. حَدَّثَنَا يُونُسُ قَالَ، أَخْبَرَنَا ابْنُ وَهْبٍ قَالَ، قَالَ ابْنُ زَيْدٍ فِي قَوْلِهِ: “ وَاللَّاتِي يَأْتِينَ الْفَاحِشَةَ مِنْ نِسَائِكُمْ فَاسْتَشْهِدُوا عَلَيْهِنَّ أَرْبَعَةً مِنْكُمْ فَإِنْ شَهِدُوا فَأَمْسِكُوهُنَّ فِي الْبُيُوتِ حَتَّى يَتَوَفَّاهُنَّ الْمَوْتُ أَوْ يَجْعَلَ اللَّهُ لَهُنَّ سَبِيلًا “، قَالَ يَقُولُ: لَا تَنْكِحُوهُنَّ حَتَّى يَتَوَفَّاهُنَّ الْمَوْتُ، وَلَمْ يُخْرِجْهُنَّ مِنَ الْإِسْلَامِ. ثُمَّ نُسِخَ هَذَا، وَجُعِلَ السَّبِيلُ أَنْ يَجْعَلَ لَهُنَّ سَبِيلًا قَالَ: فَجَعَلَ لَهَا السَّبِيلَ إِذَا زَنَتْ وَهِيَ مُحْصَنَةٌ رُجِمَتْ وَأَخْرِجَتْ، وَجَعَلَ السَّبِيلَ لِلْبِكْرِ جَلْدَ مِائَةٍ. حَدَّثَنِي يَحْيَى بْنُ أَبِي طَالِبٍ قَالَ، أَخْبَرَنَا يَزِيدُ قَالَ، أَخْبَرَنَا جُوَيْبِرٌ، عَنِ الضَّحَّاكِ فِي قَوْلِهِ: “ حَتَّى يَتَوَفَّاهُنَّ الْمَوْتُ أَوْ يَجْعَلَ اللَّهُ لَهُنَّ سَبِيلًا “ قَالَ، الْجَلْدُ وَالرَّجْمُ. حَدَّثَنَا ابْنُ الْمُثَنَّى قَالَ: حَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ جَعْفَرٍ قَالَ: حَدَّثَنَا شُعْبَةُ، عَنْ قَتَادَةَ، عَنِ الْحَسَنِ، عَنْ حِطَّانَ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ الرَّقَاشِيِّ، عَنْ عُبَادَةَ بْنِ الصَّامِتِ قَالَ، قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: “ خُذُوا عَنِّي قَدْ جَعَلَ اللَّهُ لَهُنَّ سَبِيلًا، الثَّيِّبُ بِالثَّيِّبِ وَالْبِكْرُ بِالْبِكْرِ، الثَّيِّبُ تُجْلَدُ وَتُرْجَمُ وَالْبِكْرُ تُجْلَدُ وَتُنْفَى “. حَدَّثَنِي يَحْيَى بْنُ إِبْرَاهِيمَ الْمَسْعُودِيُّ قَالَ: حَدَّثَنَا أَبِي، عَنْ أَبِيهِ، عَنْ جَدِّهِ، عَنِ الْأَعْمَشِ، عَنْ إِسْمَاعِيلَ بْنِ مُسْلِمٍ الْبَصْرِيِّ، عَنِ الْحَسَنِ، عَنْ عُبَادَةَ بْنِ الصَّامِتِ قَالَ: كُنَّا جُلُوسًا عِنْدَ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ إِذِ احْمَرَّ وَجْهُهُ، وَكَانَ يَفْعَلُ ذَلِكَ إِذَا نَـزَلَ عَلَيْهِ الْوَحْيُ، فَأَخَذَهُ كَهَيْئَةِ الْغَشْيِ لِمَا يَجِدُ مِنْ ثِقَلِ ذَلِكَ، فَلَمَّا أَفَاقَ قَالَ: “ خُذُوا عَنِّي، قَدْ جَعَلَ اللَّهُ لَهُنَّ سَبِيلًا الْبِكْرَانِ يُجْلَدَانِ وَيُنْفَيَانِ سَنَةً، وَالثَّيِّبَانِ يُجْلَدَانِ وَيُرْجُمَانِ “. قَالَ أَبُو جَعْفَرٍ: وَأَوْلَى الْأَقْوَالِ بِالصِّحَّةِ فِي تَأْوِيلِ قَوْلِهِ: “ أَوْ يَجْعَلَ اللَّهُ لَهُنَّ سَبِيلًا “، قَوْلُ مَنْ قَالَ: السَّبِيلُ الَّتِي جَعَلَهَا اللَّهُ جَلَّ ثَنَاؤُهُ لِلثَّيِّبَيْنِ الْمُحْصَنَيْنِ، الرَّجْمُ بِالْحِجَارَةِ، وَلِلْبِكْرَيْنِ جَلْدُ مِائَةٍ وَنَفْيُ سَنَةٍ لِصِحَّةِ الْخَبَرِ عَنْ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنَّهُ رَجَمَ وَلَمْ يَجْلِدْ وَإِجْمَاعِ الْحُجَّةِ الَّتِي لَا يَجُوزُ عَلَيْهَا فِيمَا نَقَلَتْهُ مُجَمِعَةً عَلَيْهِ، الْخَطَأَ وَالسَّهْوَ وَالْكَذِبَ وَصِحَّةِ الْخَبَرِ عَنْهُ أَنَّهُ قَضَى فِي الْبِكْرَيْنِ بِجَلْدِ مِائَةٍ وَنَفْيِ سَنَةٍ. فَكَانَ فِي الَّذِي صَحَّ عَنْهُ مِنْ تَرْكِهِ جَلْدَ مَنْ رُجِمَ مِنَ الزُّنَاةِ فِي عَصْرِهِ، دَلِيلٌ وَاضِحٌ عَلَى وَهَاءِ الْخَبَرِ الَّذِي رُوِيَ عَنِ الْحَسَنِ، عَنْ حِطَّانَ، عَنْ عُبَادَةَ، عَنِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنَّهُ قَالَ: السَّبِيلُ لِلثَّيِّبِ الْمُحْصَنِ الْجَلْدُ وَالرَّجْمُ. وَقَدْ ذُكِرَ أَنَّ هَذِهِ الْآيَةَ فِي قِرَاءَةِ عَبْدِ اللَّهِ: (وَاللَّاتِي يَأْتِينَ بِالْفَاحِشَةِ مِنْ نِسَائِكُمْ). وَالْعَرَبُ تَقُولُ: “ أَتَيْتَ أَمْرًا عَظِيمًا، وَبِأَمْرٍ عَظِيمٍ “ وَ“ تَكَلَّمْتَ بِكَلَامٍ قَبِيحٍ، وَكَلَامًا قَبِيحًا “.
الْقَوْلُ فِي تَأْوِيلِ قَوْلِهِ: {وَاللَّذَانِ يَأْتِيَانِهَا مِنْكُمْ}. قَالَ أَبُو جَعْفَرٍ: يَعْنِي جَلَّ ثَنَاؤُهُ بِقَوْلِهِ: “ وَاللَّذَانِ يَأْتِيَانِهَا مِنْكُمْ “، وَالرَّجُلُ وَالْمَرْأَةُ اللَّذَانِ يَأْتِيَانِهَا، يَقُولُ: يَأْتِيَانِ الْفَاحِشَةَ. وَ“ الْهَاءُ “ وَ“ الْأَلْفُ “ فِي قَوْلِهِ: “ يَأْتِيَانِهَا “ عَائِدَةٌ عَلَى “ الْفَاحِشَةِ “ الَّتِي فِي قَوْلِهِ: “ وَاللَّاتِي يَأْتِينَ الْفَاحِشَةَ مِنْ نِسَائِكُمْ “. وَالْمَعْنَى: وَاللَّذَانِ يَأْتِيَانِ مِنْكُمُ الْفَاحِشَةَ فَآذُوهُمَا. ثُمَّ اخْتَلَفَ أَهْلُ التَّأْوِيلِ فِي الْمَعْنِيِّ بِقَوْلِهِ: “ وَاللَّذَانِ يَأْتِيَانِهَا مِنْكُمْ فَآذُوهُمَا “. فَقَالَ بَعْضُهُمْ: هُمَا الْبِكْرَانِ اللَّذَانِ لَمْ يُحْصَنَا، وَهُمَا غَيْرُ اللَّاتِي عُنِينَ بِالْآيَةِ قَبْلَهَا. وَقَالُوا: قَوْلُهُ: “ وَاللَّاتِي يَأْتِينَ الْفَاحِشَةَ مِنْ نِسَائِكُمْ “، مَعْنِيٌّ بِهِ الثَّيِّبَاتُ الْمُحْصَنَاتُ بِالْأَزْوَاجِ- وَقَوْلُهُ: “ وَاللَّذَانِ يَأْتِيَانِهَا مِنْكُمْ “، يُعْنى بِهِ الْبِكْرَانِ غَيْرُ الْمُحْصَنَينِ.
ذِكْرُ مَنْ قَالَ ذَلِكَ: حَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ الْحُسَيْنِ قَالَ حَدَّثَنَا أَحْمَدُ بْنُ الْمُفَضَّلِ قَالَ حَدَّثَنَا أَسْبَاطٌ، عَنِ السُّدِّيِّ: ذَكَرَ الْجَوَارِي وَالْفِتْيَانَ اللَّذِينَ لَمْ يَنْكِحُوا فَقَالَ: “ وَاللَّذَانِ يَأْتِيَانِهَا مِنْكُمْ فَآذُوهُمَا “. حَدَّثَنَا يُونُسُ قَالَ، أَخْبَرَنَا ابْنُ وَهْبٍ قَالَ، قَالَ ابْنُ زَيْدٍ فِي قَوْلِهِ: “ وَاللَّذَانِ يَأْتِيَانِهَا مِنْكُمْ “ الْبِكْرَيْنِ فَآذُوهُمَا. وَقَالَ آخَرُونَ: بَلْ عُنِيَ بِقَوْلِهِ: “ وَاللَّذَانِ يَأْتِيَانِهَا مِنْكُمْ “، الرَّجُلَانِ الزَّانِيَانِ.
ذِكْرُ مَنْ قَالَ ذَلِكَ: حَدَّثَنَا أَبُو هِشَامٍ الرِّفَاعِيُّ قَالَ حَدَّثَنَا يَحْيَى، عَنِ ابْنِ جُرَيْجٍ، عَنْ مُجَاهِدٍ: “ وَاللَّذَانِ يَأْتِيَانِهَا مِنْكُمْ فَآذُوهُمَا “، قَالَ: الرَّجُلَانِ الْفَاعِلَانِ، لَا يُكَنِّي. حَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ عَمْرٍو قَالَ: حَدَّثَنَا أَبُو عَاصِمٍ، عَنْ عِيسَى، عَنِ ابْنِ أَبِي نَجِيحٍ، عَنْ مُجَاهِدٍ فِي قَوْلِهِ: “ وَاللَّذَانِ يَأْتِيَانِهَا مِنْكُمْ “، الزَّانِيَانِ. وَقَالَ آخَرُونَ: بَلْ عُنِيَ بِذَلِكَ الرَّجُلُ وَالْمَرْأَةُ، إِلَّا أَنَّهُ لَمْ يُقْصَدْ بِهِ بَكْرٌ دُونَ ثَيِّبٍ.
ذِكْرُ مَنْ قَالَ ذَلِكَ: حَدَّثَنَا أَبُو هِشَامٍ الرِّفَاعِيُّ قَالَ: حَدَّثَنَا يَحْيَى، عَنِ ابْنِ جُرَيْجٍ، عَنْ عَطَاءٍ: “ وَاللَّذَانِ يَأْتِيَانِهَا مِنْكُمْ فَآذُوهُمَا “، قَالَ: الرَّجُلُ وَالْمَرْأَةُ. حَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ حُمَيْدٍ قَالَ حَدَّثَنَا يَحْيَى بْنُ وَاضِحٍ قَالَ: حَدَّثَنَا الْحُسَيْنُ، عَنْ يَزِيدَ النَّحْوِيِّ، عَنْ عِكْرِمَةَ وَالْحَسَنِ الْبَصْرِيِّ قَالَا “ وَاللَّاتِي يَأْتِينَ الْفَاحِشَةَ مِنْ نِسَائِكُمْ “ إِلَى قَوْلِهِ: “ أَوْ يَجْعَلَ اللَّهُ لَهُنَّ سَبِيلًا “، فَذَكَرَ الرَّجُلَ بَعْدَ الْمَرْأَةِ، ثُمَّ جَمَعَهُمَا جَمِيعًا فَقَالَ: “ وَاللَّذَانِ يَأْتِيَانِهَا مِنْكُمْ فَآذُوهُمَا فَإِنْ تَابَا وَأَصْلَحَا فَأَعْرِضُوا عَنْهُمَا إِنَّ اللَّهَ كَانَ تَوَّابًا رَحِيمًا “. حَدَّثَنَا الْقَاسِمُ قَالَ: حَدَّثَنَا الْحُسَيْنُ قَالَ، حَدَّثَنِي حَجَّاجٌ، عَنِ ابْنِ جُرَيْحٍ قَالَ، قَالَ عَطَاءٌ وَعَبْدُ اللَّهِ بْنُ كَثِيرٍ، قَوْلُهُ: “ وَاللَّذَانِ يَأْتِيَانِهَا مِنْكُمْ “، قَالَ: هَذِهِ لِلرَّجُلِ وَالْمَرْأَةِ جَمِيعًا. قَالَ أَبُو جَعْفَرٍ: وَأَوْلَى هَذِهِ الْأَقْوَالِ بِالصَّوَابِ فِي تَأْوِيلِ قَوْلِهِ: “ وَاللَّذَانِ يَأْتِيَانِهَا مِنْكُمْ “، قَوْلُ مَنْ قَالَ: “ عُنِيَ بِهِ الْبِكْرَانِ غَيْرُ الْمُحْصَنَيْنِ إِذَا زَنَيَا، وَكَانَ أَحَدُهُمَا رَجُلًا وَالْآخَرُ امْرَأَةً “، لِأَنَّهُ لَوْ كَانَ مَقْصُودًا بِذَلِكَ قَصْدَ الْبَيَانِ عَنْ حُكْمِ الزُّنَاةِ مِنَ الرِّجَالِ، كَمَا كَانَ مَقْصُودًا بِقَوْلِهِ: “ وَاللَّاتِي يَأْتِينَ الْفَاحِشَةَ مِنْ نِسَائِكُمْ “ قَصْدَ الْبَيَانِ عَنْ حُكْمِ الزَّوَانِي، لَقِيلَ: “ وَالَّذِينَ يَأْتُونَهَا مِنْكُمْ فَآذُوهُمْ “، أَوْ قِيلَ: “ وَالَّذِي يَأْتِيهَا مِنْكُمْ “، كَمَا قِيلَ فِي الَّتِي قَبْلَهَا: “ وَاللَّاتِي يَأْتِينَ الْفَاحِشَةَ “، فَأَخْرَجَ ذِكْرَهُنَّ عَلَى الْجَمِيعِ، وَلَمْ يَقُلْ: “ وَاللَّتَانِ يَأْتِيَانِ الْفَاحِشَةَ “. وَكَذَلِكَ تَفْعَلُ الْعَرَبُ إِذَا أَرَادَتِ الْبَيَانَ عَلَى الْوَعِيدِ عَلَى فِعْلٍ أَوِ الْوَعْدِ عَلَيْهِ، أَخْرَجَتْ أَسْمَاءَ أَهْلِهِ بِذِكْرِ الْجَمِيعِ أَوِ الْوَاحِدِ وَذَلِكَ أَنَّ الْوَاحِدَ يَدُلُّ عَلَى جِنْسِهِ وَلَا تُخْرِجُهَا بِذِكْرِ اثْنَيْنِ. فَتَقُولُ: “ الَّذِينَ يَفْعَلُونَ كَذَا فَلَهُمْ كَذَا “، “ وَالَّذِي يَفْعَلُ كَذَا فَلَهُ كَذَا “، وَلَا تَقُولُ: “ اللَّذَانِ يَفْعَلَانِ كَذَا فَلَهُمَا كَذَا “، إِلَّا أَنْ يَكُونَ فِعْلًا لَا يَكُونُ إِلَّا مِنْ شَخْصَيْنِ مُخْتَلِفَيْنِ، كَالزِّنَا لَا يَكُونُ إِلَّا مِنْ زَانٍ وَزَانِيَةٍ. فَإِذَا كَانَ ذَلِكَ كَذَلِكَ قِيلَ بِذِكْرِ الِاثْنَيْنِ، يُرَادُ بِذَلِكَ الْفَاعِلُ وَالْمَفْعُولُ بِهِ. فَأَمَّا أَنْ يُذْكَرَ بِذِكْرِ الِاثْنَيْنِ، وَالْمُرَادُ بِذَلِكَ شَخْصَانِ فِي فِعْلٍ قَدْ يَنْفَرِدُ كُلُّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا بِهِ، أَوْ فِي فِعْلٍ لَا يَكُونَانِ فِيهِ مُشْتَرِكِينَ، فَذَلِكَ مَا لَا يُعْرَفُ فِي كَلَامِهَا. وَإِذَا كَانَ ذَلِكَ كَذَلِكَ، فَبَيِّنٌ فَسَادُ قَوْلِ مَنْ قَالَ: “ عُنِيَ بِقَوْلِهِ: “ وَاللَّذَانِ يَأْتِيَانِهَا مِنْكُمُ الرَّجُلَانِ “ وَصِحَّةُ قَوْلِ مَنْ قَالَ: عُنِيَ بِهِ الرَّجُلُ وَالْمَرْأَةُ. وَإِذَا كَانَ ذَلِكَ كَذَلِكَ، فَمَعْلُومٌ أَنَّهُمَا غَيْرُ اللَّوَاتِي تَقَدَّمَ بَيَانُ حُكْمِهِنَّ فِي قَوْلِهِ: “ وَاللَّاتِي يَأْتِينَ الْفَاحِشَةَ “، لِأَنَّ هَذَيْنَ اثْنَانِ، وَأُولَئِكَ جَمَاعَةٌ. وَإِذَا كَانَ ذَلِكَ كَذَلِكَ، فَمَعْلُومٌ أَنَّ الْحَبْسَ كَانَ لِلثَّيِّبَاتِ عُقُوبَةً حَتَّى يَتَوَفَّيْنَ مِنْ قَبْلِ أَنْ يَجْعَلَ لَهُنَّ سَبِيلًا لِأَنَّهُ أَغْلَظُ فِي الْعُقُوبَةِ مِنَ الْأَذَى الَّذِي هُوَ تَعْنِيفٌ وَتَوْبِيخٌ أَوْ سَبٌّ وَتَعْيِيرٌ، كَمَا كَانَ السَّبِيلُ الَّتِي جُعِلَتْ لَهُنَّ مِنَ الرَّجْمِ، أَغْلَظُ مِنَ السَّبِيلِ الَّتِي جُعِلَتْ لِلْأَبْكَارِ مِنْ جَلْدِ الْمِائَةِ وَنَفْيِ السَّنَةِ.
الْقَوْلُ فِي تَأْوِيلِ قَوْلِهِ تَعَالَى: {فَآذُوهُمَا فَإِنْ تَابَا وَأَصْلَحَا فَأَعْرِضُوا عَنْهُمَا إِنَّ اللَّهَ كَانَ تَوَّابًا رَحِيمًا}. قَالَ أَبُو جَعْفَرٍ: اخْتَلَفَ أَهْلُ التَّأْوِيلِ فِي “ الْأَذَى “ الَّذِي كَانَ اللَّهُ تَعَالَى ذِكْرُهُ جَعَلَهُ عُقُوبَةً لِلَّذِينِ يَأْتِيَانِ الْفَاحِشَةَ، مِنْ قَبْلِ أَنْ يَجْعَلَ لَهُمَا سَبِيلًا مِنْهُ. فَقَالَ بَعْضُهُمْ: ذَلِكَ الْأَذَى، أَذًى بِالْقَوْلِ وَاللِّسَانِ، كَالتَّعْيِيرِ وَالتَّوْبِيخِ عَلَى مَا أَتَيَا مِنَ الْفَاحِشَةِ.
ذِكْرُ مَنْ قَالَ ذَلِكَ: حَدَّثَنَا بِشْرُ بْنُ مُعَاذٍ قَالَ: حَدَّثَنَا يَزِيدُ قَالَ: حَدَّثَنَا سَعِيدٌ، عَنْ قَتَادَةَ: “ فَآذُوهُمَا “، قَالَ: كَانَا يؤذَيَانِ بِالْقَوْلِ جَمِيعًا. حَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ الْحُسَيْنِ قَالَ: حَدَّثَنَا أَحْمَدُ بْنُ مُفَضَّلٍ قَالَ: حَدَّثَنَا أَسْبَاطٌ، عَنِ السُّدِّيِّ: “ فَآذُوهُمَا فَإِنْ تَابَا وَأَصْلَحَا فَأَعْرِضُوا عَنْهُمَا “، فَكَانَتِ الْجَارِيَةُ وَالْفَتَى إِذَا زَنَيَا يُعَنَّفَانِ وَيُعَيَّرَانِ حَتَّى يَتْرُكَا ذَلِكَ. وَقَالَ آخَرُونَ: كَانَ ذَلِكَ الْأَذَى، أَذَى اللِّسَانِ، غَيْرَ أَنَّهُ كَانَ سَبًّا.
ذِكْرُ مَنْ قَالَ ذَلِكَ: حَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ عَمْرٍو قَالَ: حَدَّثَنَا أَبُو عَاصِمٍ، عَنْ عِيسَى، عَنِ ابْنِ أَبِي نَجِيحٍ، عَنْ مُجَاهِدٍ: “ فَآذُوهُمَا “، يَعْنِي: سَبًّا. وَقَالَ آخَرُونَ: بَلْ كَانَ ذَلِكَ الْأَذَى بِاللِّسَانِ وَالْيَدِ.
ذِكْرُ مَنْ قَالَ ذَلِكَ: حَدَّثَنِي الْمُثَنَّى قَالَ: حَدَّثَنَا عَبْدُ اللَّهِ بْنُ صَالِحٍ قَالَ، حَدَّثَنِي مُعَاوِيَةُ بْنُ صَالِحٍ، عَنْ عَلِيِّ بْنِ أَبِي طَلْحَةَ، عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ قَوْلُهُ: “ وَاللَّذَانِ يَأْتِيَانِهَا مِنْكُمْ فَآذُوهُمَا “، فَكَانَ الرَّجُلُ إِذَا زَنَى أُوذِيَ بِالتَّعْيِيرِ وَضُرِبَ بِالنِّعَالِ. قَالَ أَبُو جَعْفَرٍ: وَأَوْلَى الْأَقْوَالِ فِي ذَلِكَ بِالصَّوَابِ أَنْ يُقَالَ: إِنَّ اللَّهَ تَعَالَى ذِكْرُهُ كَانَ أَمَرَ الْمُؤْمِنِينَ بِأَذَى الزَّانِيَيْنِ الْمَذْكُورَيْنِ، إِذَا أَتَيَا ذَلِكَ وَهُمَا مِنْ أَهْلِ الْإِسْلَامِ. وَ“ الْأَذَى “ قَدْ يَقَعُ لِكُلِّ مَكْرُوهٍ نَالَ الْإِنْسَانَ، مِنْ قَوْلٍ سَيِّئٍ بِاللِّسَانِ أَوْ فِعْلٍ. وَلَيْسَ فِي الْآيَةِ بَيَانُ أَيِّ ذَلِكَ كَانَ أَمْرَ بِهِ الْمُؤْمِنُونَ يَوْمَئِذٍ، وَلَا خَبَرَ بِهِ عَنْ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مِنْ نَقْلِ الْوَاحِدِ وَلَا نَقْلِ الْجَمَاعَةِ الْمُوجِبُ مَجِيئُهُمَا قَطْعَ الْعُذْرِ. وَأَهْلُ التَّأْوِيلِ فِي ذَلِكَ مُخْتَلِفُونَ، وَجَائِزٌ أَنْ يَكُونَ ذَلِكَ أَذًى بِاللِّسَانِ أَوِ الْيَدِ، وَجَائِزٌ أَنْ يَكُونَ كَانَ أَذًى بِهِمَا. وَلَيْسَ فِي الْعِلْمِ بِأَيِ ذَلِكَ كَانَ مِنْ أَيِّ نَفْعٍ فِي دِينٍ وَلَا دُنْيَا، وَلَا فِي الْجَهْلِ بِهِ مَضَرَّةٌ، إِذْ كَانَ اللَّهُ جَلَّ ثَنَاؤُهُ قَدْ نَسَخَ ذَلِكَ مِنْ مُحْكَمِهِ بِمَا أَوْجَبَ مِنَ الْحُكْمِ عَلَى عِبَادِهِ فِيهِمَا وَفِي اللَّاتِي قَبِلَهُمَا. فَأَمَّا الَّذِي أَوْجَبَ مِنَ الْحُكْمِ عَلَيْهِمْ فِيهِمَا، فَمَا أَوْجَبَ فِي “ سُورَةِ النُّورِ: “ بِقَوْلِهِ: (الزَّانِيَةُ وَالزَّانِي فَاجْلِدُوا كُلَّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا مِائَةَ جَلْدَةٍ). وَأَمَّا الَّذِي أَوْجَبَ فِي اللَّاتِي قَبْلَهُمَا، فَالرَّجْمُ الَّذِي قَضَى بِهِ رَسُولُ اللَّهِ فِيهِمَا. وَأَجْمَعَ أَهْلُ التَّأْوِيلِ جَمِيعًا عَلَى أَنَّ اللَّهَ تَعَالَى ذِكْرُهُ قَدْ جَعَلَ لِأَهْلِ الْفَاحِشَةِ مِنَ الزُّنَاةِ وَالزَّوَانِي سَبِيلًا بِالْحُدُودِ الَّتِي حَكَمَ بِهَا فِيهِمْ. وَقَالَ جَمَاعَةٌ مِنْ أَهْلِ التَّأْوِيلِ: إِنَّ اللَّهَ سُبْحَانَهُ نَسَخَ بِقَوْلِهِ: “ (الزَّانِيَةُ وَالزَّانِي فَاجْلِدُوا كُلَّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا مِائَةَ جَلْدَةٍ) [سُورَةُ النُّورِ: 2]، قَوْلَهُ: “ وَاللَّذَانِ يَأْتِيَانِهَا مِنْكُمْ فَآذُوهُمَا “.
ذِكْرُ مَنْ قَالَ ذَلِكَ: حَدَّثَنِي مُحَمَّدُ بْنُ عَمْرٍو قَالَ: حَدَّثَنَا أَبُو عَاصِمٍ، عَنْ عِيسَى، عَنِ ابْنِ أَبِي نَجِيحٍ، عَنْ مُجَاهِدٍ: “ وَاللَّذَانِ يَأْتِيَانِهَا مِنْكُمْ فَآذُوهُمَا، قَالَ: كُلُّ ذَلِكَ نَسَخَتْهُ الْآيَةُ الَّتِي فِي “ النُّورِ “ بِالْحَدِّ الْمَفْرُوضِ. حَدَّثَنَا أَبُو هِشَامٍ قَالَ: حَدَّثَنَا يَحْيَى، عَنِ ابْنِ جُرَيْجٍ، عَنْ مُجَاهِدٍ: “ وَاللَّذَانِ يَأْتِيَانِهَا مِنْكُمْ فَآذُوهُمَا “ الْآيَةَ، قَالَ: هَذَا نَسَخَتْهُ الْآيَةُ فِي “ سُورَةِ النُّورِ “ بِالْحَدِّ الْمَفْرُوضِ. حَدَّثَنَا ابْنُ حُمَيْدٍ قَالَ: حَدَّثَنَا أَبُو تَمِيلَةَ قَالَ: حَدَّثَنَا الْحُسَيْنُ بْنُ وَاقَدْ، عَنْ يَزِيدَ النَّحْوِيِّ. عَنْ عِكْرِمَةَ وَالْحَسَنِ الْبَصْرِيِّ قَالَا فِي قَوْلِهِ: “ وَاللَّذَانِ يَأْتِيَانِهَا مِنْكُمْ فَآذُوهُمَا “ الْآيَةَ، نُسِخَ ذَلِكَ بِآيَةِ الْجَلَدِ فَقَالَ: (الزَّانِيَةُ وَالزَّانِي فَاجْلِدُوا كُلَّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا مِائَةَ جَلْدَةٍ). حَدَّثَنِي الْمُثَنَّى قَالَ: حَدَّثَنَا أَبُو صَالِحٍ قَالَ، حَدَّثَنِي مُعَاوِيَةُ بْنُ صَالِحٍ، عَنْ عَلِيِّ بْنِ أَبِي طَلْحَةَ، عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ قَوْلُهُ: “ وَاللَّذَانِ يَأْتِيَانِهَا مِنْكُمْ فَآذُوهُمَا “، فأَنْـزَلَ اللَّهُ بَعْدَ هَذَا: (الزَّانِيَةُ وَالزَّانِي فَاجْلِدُوا كُلَّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا مِائَةَ جَلْدَةٍ)، فَإِنْ كَانَا مُحْصَنَيْنِ رُجِمَا فِي سُنَّةِ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ. حَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ الْحُسَيْنِ قَالَ: حَدَّثَنَا أَحْمَدُ بْنُ مُفَضَّلٍ قَالَ: حَدَّثَنَا أَسْبَاطٌ، عَنِ السُّدِّيِّ: “ وَاللَّاتِي يَأْتِينَ الْفَاحِشَةَ مِنْ نِسَائِكُمْ “ الْآيَةَ، جَاءَتِ الْحُدُودُ فَنَسَخَتْهَا. حُدِّثْتُ عَنِ الْحُسَيْنِ بْنِ الْفَرَجِ قَالَ، سَمِعْتُ أَبَا مُعَاذٍ يَقُولُ: أَخْبَرَنَا عُبَيْدُ بْنُ سُلَيْمَانَ قَالَ، سَمِعْتُ الضَّحَّاكَ يَقُولُ: نَسَخَ الْحَدُّ هَذِهِ الْآيَةَ. حَدَّثَنَا الْقَاسِمُ قَالَ: حَدَّثَنَا الْحُسَيْنُ قَالَ: حَدَّثَنَا أَبُو سُفْيَانَ، عَنْ مَعْمَرٍ، عَنْ قَتَادَةَ: “ فَأَمْسِكُوهُنَّ فِي الْبُيُوتِ “ الْآيَةَ، قَالَ: نَسَخَتْهَا الْحُدُودُ، وَقَوْلُهُ: “ وَاللَّذَانِ يَأْتِيَانِهَا مِنْكُمْ “، نَسَخَتْهَا الْحُدُودُ. حَدَّثَنِي يُونُسُ قَالَ، أَخْبَرَنَا ابْنُ وَهْبٍ قَالَ، قَالَ ابْنُ زَيْدٍ فِي قَوْلِهِ: “ وَاللَّذَانِ يَأْتِيَانِهَا مِنْكُمْ فَآذُوهُمَا “، الْآيَةَ، ثُمَّ نُسِخَ هَذَا، وَجُعِلَ السَّبِيلُ لَهَا إِذَا زَنَتْ وَهِيَ مُحْصَنَةٌ، رُجِمَتْ وَأُخْرِجَتْ، وَجَعَلَ السَّبِيلَ لِلذَّكَرِ جَلْدُ مِائَةٍ. حَدَّثَنَا الْحَسَنُ بْنُ يَحْيَى قَالَ، أَخْبَرَنَا عَبْدُ الرَّزَّاقِ قَالَ، أَخْبَرَنَا مَعْمَرٌ، عَنْ قَتَادَةَ فِي قَوْلِهِ: “ فَأَمْسِكُوهُنَّ فِي الْبُيُوتِ حَتَّى يَتَوَفَّاهُنَّ الْمَوْتُ “، قَالَ: نَسَخَتْهَا الْحُدُودُ. وَأَمَّا قَوْلُهُ: فَإِنْ تَابَا وَأَصْلَحَا فَأَعْرِضُوا عَنْهُمَا فَإِنَّهُ يَعْنِي بِهِ جَلَّ ثَنَاؤُهُ: فَإِنْ تَابَا مِنَ الْفَاحِشَةِ الَّتِي أَتَيَا فَرَاجِعَا طَاعَةَ اللَّهِ بَيْنَهُمَا “ وَأَصْلَحَا “، يَقُولُ: وَأَصْلَحَا دِينَهُمَا بِمُرَاجَعَةِ التَّوْبَةِ مِنْ فَاحِشَتِهِمَا، وَالْعَمَلُ بِمَا يُرْضِي اللَّهَ “ فَأَعْرِضُوا عَنْهُمَا “، يَقُولُ: فَاصْفَحُوا عَنْهُمَا، وَكَفُّوا عَنْهُمَا الْأَذَى الَّذِي كُنْتُ أَمَرْتُكُمْ أَنْ تُؤْذُوهُمَا بِهِ عُقُوبَةً لَهُمَا عَلَى مَا أَتَيَا مِنَ الْفَاحِشَةِ، وَلَا تُؤْذُوهُمَا بَعْدَ تَوْبَتِهِمَا. وَأَمَّا قَوْلُهُ: “ إِنَّ اللَّهَ كَانَ تَوَّابًا رَحِيمًا “، فَإِنَّهُ يَعْنِي: إِنَّ اللَّهَ لَمْ يَزَلْ رَاجِعًا لِعَبِيدِهِ إِلَى مَا يُحِبُّونَ إِذَا هُمْ رَاجَعُوا مَا يُحِبُّ مِنْهُمْ مِنْ طَاعَتِهِ “ رَحِيمًا “ بِهِمْ، يَعْنِي: ذَا رَحْمَةٍ وَرَأْفَةٍ.
|